رئيس التحرير
عصام كامل

في ذكرى ميلاده الـ103.. "ناصر" عظيم المجد والخطايا.. ألقى أكثر من 1000 خطاب بين عامي 52-1970.. و"التنحي" الأشهر

الرئيس الأسبق جمال
الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر
في الخامس عشر من يناير كل عام.. تحل ذكرى ميلاد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر. ورغم الرحيل الذي أتم نصف قرن من الزمان.. لا يزال ناصر خالدًا في ذاكرة المصريين، بعضهم يراه عظيم المجد، فيستجلب له الرحمات، وبعضهم يراه عظيم الخطايا فيستنزل عليه اللعنات، كل حزب بما لديهم فرحون وقانعون ومقتنعون.


فى منتصف الشهر الجارى.. حلت الذكرى الثالثة بعد المائة لعبد الناصر، الذي امتلك مقومات الزعامة، وسمات الرؤساء الكبار المؤثرين لا شك أن الضجيج الذي كان يرافق ذكرى مولد ووفاة ناصر آخذٌ في التراجع بوتيرة متسارعة؛ فالناصريون الحقيقيون إما قد رحلوا أو شاخوا وبلغوا من العمر عتيًا، كما أن من يعتبرون أنفسهم ورثة عبد الناصر انسحبوا من المشهد وآووا إلى مكان سحيق، فلا تكاد تسمع لهم همسًا.

ورغم هذه الإشكاليات المتناقضة والمتصادمة.. يبقى "ناصر" حالة خاصة شديدة التعقيد، ولا تزال فترة حكمة في بعض جوانبها شديدة الإلهام والتأثير، كما لا تزال كنزًا لم يتم فك شفراته بالكامل، ولا تزال هناك أسرار قابلة للتفتيش والسرد والحكى والتقييم..

خطاب التنحي

صباح التاسع من شهر يونيو عام 1967، نقلت الإذاعة والتليفزيون المصري والعربي والإقليمي، عبارات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، التي كانت تضج بالألم والحزن، في خطابه الأخير بعد سلسلة من الخطابات تخطت الألف خطاب بين عامي 1952 وحتى عام 1970، يلقي على المصريين والعرب خطاب تنحيه عن رئاسة الجمهورية، في أعقاب هزيمة مصر أمام الجيش الإسرائيلي.

خطاب ما زال عالقًا في ذهن كل مصري وعربي حتى وإن لم يعاصره ولم يعاصر حقبة الرئيس جمال عبدالناصر ثاني رؤساء مصر المعاصرين بعد الرئيس الراحل محمد نجيب، حينما وقف وقال: "أيها الإخوة المواطنون.. لا نستطيع أن نخفي على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الخطيرة، لكني واثق أننا جميعًا نستطيع أن نجتاز موقفنا الصعب، وإن كنا نحتاج إلى كثير من الصبر والحكمة".

لم يكن خطاب التنحي فقط الذي ألهم الكثيرين بلغته وطريقة إلقائه، فقبله ثمة المئات من الخطابات في كل مناسبة سواء سراء أو ضراء، كان عبد الناصر يجد طريقه مباشرة إلى قلوب المصريين والعرب وبدأت كلماته ومواقفه في تلك الخطابات محفورة في ذاكرة الوعي الجمعي العربي، فلا أحد ينسى ما قاله في أعقاب جلاء القوات الإنجليزية عن مصر: "أنا مش خِرع زي مستر إيدن".

أو موقفه الطريف في خطابه الذي تخلله نقاش بينه وبين أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين حول الحجاب وغيره، فهو من قال عنه الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدته "الرجل ذو الظل الأخضر" : نرى صوتك الآن ملء الحناجر.. زوابع تلو زوابع.. نرى صدرك الآن متراس ثائر".

حاولنا التواصل مع عدد من المفكرين والمؤرخين للوقوف على طبيعة هذه الخطابات لتحليلها فكريًا وجسديًا واجتماعيا.

دروس سياسية

الكاتبة والصحفية اليسارية فريدة النقاش، قالت: إن الأمر الذي جعل خطابات جمال عبدالناصر تضعه في مكان فريد جدا بين رؤساء مصر المعاصرين، حيث كان حريصا حرصًا شديدًا على أن تتضمن هذه الخطابات، دون أي نوع من التعالي، دروسًا في السياسة للمصريين سواء السياسة الدولية أو المحلية أو العلاقات العربية.

وأن تكون هذه الخطابات مرجعية للمواطنين حتى يتسلحوا بإمكانيات لفهم ما يجري في الكلام، "كانت طريقته بسيطة قريبة من القلب باستخدام اللغة العامية المُبسطة ولكنها كانت عميقة جدا مدعومة بلغة جسد تحرص طوال الوقت على الوصول والتقرب للمواطنين".

أيضا كانت خطاباته، على حد قولها، تعكس حرصه على اكتساب ثقة المواطنين، من خلال الشرح الوافي لما يتحدث عنه، وكان استهلال خطاباته بكلمة "باسم الأمة"، أكدت فريدة أنه كان يريد أن يعبر عن آمال الأمة كلها وكافة الطبقات والفئات وليس فئة بعينها.

وهذا ما أشار إليه أيضا الكاتب الصحفي عبدالله السناوي، الذي وصف خطابات الرئيس جمال عبدالناصر سواء الرسمية أو غير الرسمية بالخطابات التي استخدمت لغة جسد مع لغة إلقاء، بالأكثر إلهامًا في التاريخ المصري والعربي المعاصر، فحتى وإن لم يكن يقصد الرئيس الاعتماد على لغة جسد قوية، كان تقربه من المصريين في الأحداث المختلفة.

وهذا لأنه كان يمزج بين النص المكتوب والتلقائية المباشرة، وهذا وفقًا للسناوي السبب في أن يصل تأثير هذه الخطابات ليس على مصر فقط ولكن في العالم العربي كله، ويتابع قائلا:"الناس جميعها كانت تجلس أمام أجهزة الراديو في انتظار خطاب عبدالناصر، وتتأثر به".

ويؤكد السناوي على أن الحضور والتفاعل هما كانا كلمتي السر وراء أي خطاب قدمه جمال عبد الناصر للأمة العربية والمصرية؛ فكان هناك تفاعل مستمر بين عبدالناصر والمتواجدين في القاعة، وفقا للحدث الذي يقدم فيه خطابه.

فقد أشار السناوي إلى أن عبدالناصر كان يستخدم تكنيكا معينا في كل خطاب وفقًا لظروفه، ولكن الحضور والتفاعل تواجدا طوال الوقت.

سواء كان خطاب تعبئة بسبب الحرب أو خطابا مجتمعيا يخص قضية محلية، أو غير ذلك.

حديث من القلب

يرى الدكتور عاصم الدسوقي المؤرخ والمتخصص في التاريخ المعاصر والتاريخ الاقتصادي، أن أهم ما كان يميز خطابات الرئيس جمال عبدالناصر أنها كانت من القلب وليست مُعدة سلفًا فيما عدا الخطابات الرسمية التي كان يقرأها، وحتى هي كان يخرج عن النص، يترك المكتوب ويتحدث بالعامية، مما جعله قريبا للناس بصورة أكبر مقارنةً برؤساء مصر الآخرين.

وهذا لأنه كان على علم بنسبة الأمية في المجتمع المصري، فقبل عام 1952 نسبة الأمية في مصر كانت قد وصلت إلى 70%، فكان على علم بذلك ولو تكلم باللغة العربية الفصحى لن يفهمه هذا المجهور الذي لا يعرف اللغة، ومن هنا حرص على الحديث بالعامية وهي لغة الجماهير التي قام بالثورة من أجلها، وهذا كان هدفه من التحدث بهذه اللغة.

وتابع الدسوقي قائلا :"الدليل على ذلك أيضًا خطاباته بعبارة باسم الأمة، فكانت دليلًا على أنه يتحدث باسم الأمة".

الدسوقي أكد أيضًا أن ما جعل هذه الخطابات تتميز بالتفرد حتى هذه اللحظة رغم اعتماد عبدالناصر فيها على اللغة العامية البسيطة، هي خلوها من المناورة أو النفاق أو الكذب على المصريين، متابعا:"لم يكن يخبئ شيئا ويتحدث بكل صراحة، حتى عندما كان يهاجم أمريكا يهاجمهما بكل صراحة".

كما أكد المؤرخ عاصم الدسوقي أن خطابات الرئيس السيسي وإلى حد كبير تتشابه مع خطابات عبدالناصر، ويعتبر إحياء لجمال عبدالناصر للاقتراب من الشعب.

نقلًا عن العدد الورقي...
الجريدة الرسمية