المفكر أحمد أمين يحكي تجربته للأجيال القادمة
فى كتابه "رسالة الى ولدى"، صدر 1950، كتب المفكر العالم د. أحمد امين (رحل عام 1954) 12 رسالة الى ولده، هو لم يقصد بها ابنه من صلبه وحده، وانما قصد بها اجيال الشباب المتعاقبة، ففى رسالته الاولى كتب يقول:
"أي بني؛ أعلم انك قد خلقت لزمن غير زمنى، وربيت تربية غير تربيتى ونشأت فى بيئة غير نشأت فيها، كنت فى زمنى عبد التقاليد والاوضاع وأنت فى زمن يكسر التقاليد والأوضاع.
كنت فى زمن شعاره الطاعة العمياء لأبى ولأولياء أمري، وأنت فى زمن التمرد على سلطة الآباء والمعلمين وأولى الأمر.
تعلمت أول أمرى فى كتاب حقير، نجلس فيه على الحصير، ويعلمنا مدرس جبار يضرب على الهفوة، ويعاقب على الخطأ والصواب، وأنت تعلمت فى روضة أطفال حيث يشرف عليك آنسة رقيقة مهذبة تعلمك القراءة والكتابة فى اطار من الصور والرسوم والاغانى، وكنت اعيش فى كتابى على الفول النابت والفول المدمس، وتعيش انت فى روضتك على اللبن والبسكويت وما اليه.
ولما صبوت تعلمت فى المدارس الفرنسية التى نقلت لك كل أساليب المدنية الغربية الحديثة، وتربيت انا وسط كله دين.. دين فى الكتب، دين فى الحياة الاجتماعية، فى كل شيء.
نشأت فى وسط لا تذكر فيه السياسة إلا لماما، ونشأت أنت فى وسط كله سياسة وإضراب ورأي.
نشأت فى وسط لا يعرف المرأة إلا محجبة، ولا يعرف فتاة إلا أن تكون قريبة محرمة، ونشأت أنت فى وسط تجالسك الفتاة فى جامعتك وتشاهدها فى اوساطك.
دار الشروق تُصدر الطبعة الرابعة من "حياتي" لأحمد أمين
لو عددت تلك الفروق بينى وبينك فى زمنى وزمنك وتعليمى وتعليمك لطال الامر.. لكن برغم كل هذا فالفروق مهما كانت هى فروق جزئية فمازال بينى وبينك وجوه اشبه وأعمق من تلك، فالتغيرات بين الناس مهما اختلفت الأزمنة والامكنة تغيرات سطحية وأمور عرضية.. أما الانسان فى جوهره والبشر جميعا ترجع أصولهم الى أصول واحدة.
من أجل ذلك كانت تجارب السلف تفيد الخلف، فلأقص عليك شيئا من تجاربى أعتقد أنها تفيدك:
أهم ماجربت فى حياتى أنى رأيت قول الحق وتحرى العدل والقيام به، ولقد احتملت فى ذلك بعض الآلام، وضاعت من أجله بعض المصالح لكنى مع ذلك استفدت منه أكثر مما خسرت.. استفدت راحة الضمير وثقة الناس بما أقول وأعمل، واستفدت حسن الظن بما يصدر عنى ولو لم يفهموا سببه.
وجدت فى أوساط كثيرة، وعاشرت زملاء كانوا يرضون رؤساءهم اكثر مما يرضون ضمائرهم، ويقولون ما يعجب الناس، ولو كان بعيدا عن الصدق، ويرتكبون الظلم طلبا للجاه والعلو فى المنصب، وفى النهاية خسروا كثيرا، خسروا ضمائرهم وخسروا الفضيلة، وفازوا بقليل من الحظ العاجل تبعه كثير من الفشل الآجل.
رأيت كثيرا من الناس يخطئون فيظنون أن المال هو كل شيء فى الحياة فيبيعون أنفسهم له فيسقطون فى الرذائل، وقد أقنعتنى الحياة أن المال وسيلة من وسائل السعادة حقا بشرط الاعتدال، وأن يظل وسيلة لا غاية أبدا.
ودلتنى التجارب على أن عنصر الدين فى الحياة من أهم أسباب السعادة بالرغم من أن الدين فى زماننا كان متزمتا، لا سماحة فيه، مغلقا، لا عقل فيه، والدين فى زمانكم مغلق، لا حياة فيه، منسي، موضوع على الرف، يعجبنى فى الدين أن يكون سمحا لا غلظة فيه، وألا يكون ضيق الأفق فيناهض العلم، والصحيح الاثنان مكملان، ولابد منهما للإنسانية؛ فالعلم لحياة العقل، والدين لحياة القلب.