هل يجوز تنصيب المفتي من غير المسلم في دولة غير إسلامية؟.. دار الإفتاء تجيب
ورد سؤال إلى الدار الإفتاء من قبل بعض الجاليا المسملة في دولة اليونان يقول فيه صاحبه "هل يجوز تنصيب المفتي من غير المسلم في دولة غير إسلامية؟ وهل يجوز تعيين الأئمة من قِبل المفتي الذي تم تنصيبه من غير المسلم في دولة غير إسلامية؟ وهل يجوز للمفتي المعيَّن من قِبل غير المسلم، والمدرس لمادة الدين في المدارس، والأئمة، أن يتقاضوا رواتبهم من الدولة التي رئيسها غير مسلم؟
وجاء رد الدار كالتالي:
المسلم مأمور بأن يُسَدِّد ويقارب، وأن يطبق دينه بقدر ما يُطيق مِن غير أن يوقع نفسه في العَنَت؛ فإن الشرع الشريف مبناه على رفع الحرج عن المكلف، وإنما يُطبَّق من الأحكام ما تيسر منها، و"الأمر إذا ضاق اتسع"، و"المشقة تجلب التيسير"، وإذا شاع الحرام أُخِذَ منه بقدَر؛ فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنِّ الدينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبَه، فسَدِّدُوا وقاربوا، وأبشروا».
كما أن على المسلم أن لا يهمل ما يتيسر له العمل به من أحكام الشريعة؛ فإن الميسور لا يسقط بالمعسور.
حكم التصدى للفتوى
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 95، ط. دار المعرفة): [أي: الزموا السداد وهو الصواب، من غير إفراط ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل، "وقاربوا" أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه] اهـ.
وقد شاء الله تعالى أن تتباين أحوال الدعوة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوة وضعفًا، وهذا من تمام الأسوة الحسنة؛ لتكون السيرة النبوية الشريفة نبراسًا للمسلمين في كل أحوالهم عبر العصور.
وزاد أهل العلم هذا المعنى إيضاحًا؛ فصنفوا في الأحوال التي يعجز المسلمون فيها عن إقامة كل أحكام الشريعة أو بعضها؛ كما صنع إمام الحرمين الجويني في كتابه "غياث الأمم في الْتياث الظُّلَم" المعروف بالغياثي.
متغيرات الفتوى
ولا شك أن الواقع جزءٌ من الفتوى وأن الفتوى تتغير بتغير جهاتها الأربع (الزمان والمكان والأشخاص والأحوال)؛ فلا بد أن نراعي فيها ما طرأ على عوالم الواقع (عالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم النظم) من تغير عما هو معهود في التاريخ بما ليس شرًّا محضًا ولاخيرًا محضًا.
فقد تغير شكل الدولة عما عُهد في التاريخ وقامت الدولة الحديثة ومؤسساتها، وأصبح ولي الأمر فيها هو السلطة التشريعة لا أشخاص الحكام، وتنامى ما يعرف بالشخصية الاعتبارية، واتسع نشاط ما يسمى بالمجتمع المدني عن ذي قبل إلى آخر ما هنالك من التغيرات الواقعية المتعين اعتبارها عند الإفتاء؛ فيجد المفتي الحال حينئذٍ أعقد من أن يتقيد فيه بمذهب واحد، بل يضطر إلى الاختيار من المذاهب الأربعة ثم من مذاهب الفقه الإسلامي الواسع على أساس الدليل أو ترجيح المصالح واعتبار المقاصد.
شروط إختيار المفتي
وموارد الدولة في العصر الحديث ليست ملكًا لحكومتها، بل هي ملك عام بمقتضى الدستور والقانون، والمالك لموارد الدولة -غير المملوكة أصلًا لأشخاص بأعيانهم- هو الشخصية الاعتبارية المسماة بـ"الدولة" التي يمثلها عدد من الأشخاص الاعتباريين والمؤسسات والقوانين والقواعد الإدارية يتصرفون في الدولة بحسب قانونها ومصلحتها المنوطة بهم.
وعلى ذلك: فإن موارد اليونان ليست ملكًا لحكومة اليونان ولا غيرها، بل ما يكون فيها من ملكية خاصة فهو مملوكٌ لأصحابه، وما لا يكون من ذلك فهو مملوكٌ لأهل اليونان ملكيةً عامةً تنظمها الدولة عبر قانونها، وما تخصصه الحكومة بمقتضى القانون والنظام العام لا يعني بحالٍ أنها تملكه، بل تصرفها منوط بمصلحة المواطنين.
هل يجب تعيين المفتي
وتولي المناصب من قبل الحكومة داخل اليونان أمر يرجع إلى تحقيق المقاصد الشرعية المعبر عنها بتحقيق المصالح ودرء المفاسد فما رجحت مصلحته على مفسدته لم يحرم وإلا حرمت المشاركة فيه، والظن أن المشاركة في هذه الأمور في بلادكم وفي اليونان نفسها مما تترجح مصلحته على مفسدته فالحكم فيها دائرٌ بين الإباحة والاستحباب بل قد يصل إلى الوجوب في حالة ما إذا تعين لتحصيل مصلحة المسلمين كأن يكون قضاء حوائجهم متوقفًا على ذلك وبغيره لا تقضى الحوائج.
والعمل في الوظائف الحكومية بمثابة عقد يقوم فيه الموظف بعمل مقابل أجر، وهو أمر مقرر شرعًا بضوابطه فأشبه المعاملات والمعاوضات.
أحكام الأقليات المسملة
وليس ذلك من قبيل عمل المسلم عند غير المسلم أو استئجار الكافر للمسلم -الذي أباحه العلماء-؛ لأنه عملٌ في نظامٍ مؤسَّسِيٍّ تحكمه قوانينُه، ولا يحكمه الأفراد حتى نفترض تسلطهم على المسلم، فهو عملٌ مشتركٌ ينظِّمه قانونُه ويُتَحاكَم فيه إليه، وتتساوى فيه الحقوق والواجبات بين كافَّة أفراده.
وهذه الطريقة التي يتم بها تعيين المفتي في اليونان هي طريقةٌ مثلى لا غبار عليها؛ لأن الاختيار يتم من تشاور أهل الحل والعقد من علماء المسلمين والقائمين بشؤونهم، وهذا هو النظام المرضي المتبع في الإسلام.
ضوابط إنخراط الملسم في المجتمعات الغربية
وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي في المشاركة في الانتخابات فتوى محررة هي:
1- مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية من مسائل السياسة الشرعية التي يتقرر الحكم فيها في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، والفتوى فيها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.
2- يجوز للمسلم الذي يتمتع بحقوق المواطنة في بلد غير مسلم المشاركة في الانتخابات النيابية ونحوها؛ لغلبة ما تعود به مشاركته من المصالح الراجحة مثل تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام، والدفاع عن قضايا المسلمين في بلده، وتحصيل مكتسبات الأقليات الدينية والدنيوية، وتعزيز دورهم في مواقع التأثير، والتعاون مع أهل الاعتدال والإنصاف لتحقيق التعاون القائم على الحق والعدل، وذلك وفق الضوابط الآتية:
أولًا: أن يقصد المشارك من المسلمين بمشاركته الإسهام في تحصيل مصالح المسلمين، ودرء المفاسد والأضرار عنهم.
ثانيًا: أن يغلب على ظن المشارك من المسلمين أن مشاركته تفضي إلى آثار إيجابية، وتعود بالفائدة على المسلمين في هذه البلاد؛ من تعزيز مركزهم، وإيصال مطالبهم إلى أصحاب القرار، ومديري دفة الحكم، والحفاظ على مصالحهم الدينية والدنيوية.
ثالثاً: ألا يترتب على مشاركة المسلم في هذه الانتخابات ما يؤدي إلى تفريطه في دينه.
حكم عمل المسلم في المؤسسات غير المسلمة
كما نص قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 23 (11/3) وتاريخ 11/ 10/ 1986م في دورة مؤتمره الثالث بعمان بالأردن على أنه: يجوز للمسلم العمل المباح شرعًا في دوائر ومؤسسات حكومات غير إسلامية، إذا لم يؤدِّ عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين.
قال ابن عابدين: [ذكر في أول "جامع الفصولين" كل مصر فيه والٍ مسلمٌ من جهة الكفار، يجوز منه إقامة الجمع والأعياد وأخذ الخراج وتقليد القضاء وتزويج الأيامى لاستيلاء المسلم عليهم. وأما طاعة الكفر فهي موادعة ومخادعة.
وأما في بلادٍ عليها ولاةٌ كفار فيجوز للمسلمين إقامةُ الجمع والأعياد، ويصير القاضي قاضيًا بتراضي المسلمين، ويجب عليهم طلبُ والٍ مسلم. اهـ. وقدمنا نحوه في باب الجمعة عن "البزازية"] اهـ. "رد المحتار على الدرِّ المختار" (4/ 175).
ضوابط حياة المسلم فى الغرب
قال العزُّ بن عبد السلام رحمه الله: [لو استولى الكفَّار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامَّة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله، جلبًا للمصالح العامة، ودفعًا للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامَّة، وتحمل المفاسد الشاملة، لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها] اهـ. "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (1/ 85).
وتجوز المشاركة لما يلي:
أ-مشاركة يوسف عليه السلام في حكم مصر التي لم تكن وقتئذٍ بلدًا مؤمنًا؛ قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 37 -40].
ومع ذلك ساغ له طلب المشاركة في حكم مصر بما حكاه القرآن عنه من قوله: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55]، وتحقَّق له ذلك.
قال ابن تيمية رحمه الله في هذه الآيات: [الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حقِّ الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب فيقدم حينئذٍ خير الخيرين وجوبًا تارةً واستحبابًا أخرى. ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارًا، ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنَّة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له.
لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبًا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تاركَ واجب في الحقيقة] اهـ. "مجموع الفتاوى" (20/ 56-57، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية 1416ه- 1995م).
ب-موقف النجاشي الذي يرشح جواز اشتراك المسلمين في الحكومات غير الإسلامية حيث إن النجاشي كان مسلمًا، وكان يقوم على نظام يحكم بغير شرع الله، ما يترجح من أن المشاركة المضبوطة بالضوابط السابقة مما تترجح المصلحة فيه على المفسدة.
تعريف الولاء والبراء
والعمل في الوظائف المدنية أو الدينية في الدول غير الإسلامية ليس من باب ولاية غير المسلمين أو متابعتهم في عقائدهم كما زعم بعضهم، فإن التولي المنهي عنه في نصوص الشرع هو الولاء على العقيدة لا كلُّ تعاملٍ أو تعاوُنٍ على الخير، بل الأول هو المنهي عنه، والثاني مأمورٌ به وداخلٌ في عموم قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
وفي حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه الطويل في قصة صلح الحديبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا». "صحيح البخاري" (3/ 193، رقم 2731).
وقال ابن حجر رحمه الله: [في الحديث فضل الاستشارة لاستخراج وجه الرأي واستطابة قلوب الأتباع، وجواز بعض المسامحة في أمر الدين واحتمال الضيم فيه ما لم يكن قادحًا في أصله إذا تعين ذلك طريقا للسلامة في الحال والصلاح في المآل؛ سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم] اهـ. "فتح الباري" (5/ 352).
وتعيين المفتي والأئمة في ظل الدولة غير الإسلامية ليس عمالةً سياسيةً كما يزعم بعضهم، بل هو حقٌّ كَفَل لأبناء الوطن التوظيفَ في بلدهم، وواجبٌ عُلِّق بأعناقهم لحفظ دين المواطنين المسلمين وفاءً بالعقد الاجتماعي المبرم بينهم على العمل لمصلحة الوطن ومنها حفظُ الدين للمسلمين والتكفل بجميع حقوقهم، وحفظُ الدين والوفاءُ بالعهود من أولويات المقاصد الشرعية والقيم الإسلامية التي يجب كفالتها والوفاء بها.
وجاء رد الدار كالتالي:
المسلم مأمور بأن يُسَدِّد ويقارب، وأن يطبق دينه بقدر ما يُطيق مِن غير أن يوقع نفسه في العَنَت؛ فإن الشرع الشريف مبناه على رفع الحرج عن المكلف، وإنما يُطبَّق من الأحكام ما تيسر منها، و"الأمر إذا ضاق اتسع"، و"المشقة تجلب التيسير"، وإذا شاع الحرام أُخِذَ منه بقدَر؛ فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنِّ الدينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبَه، فسَدِّدُوا وقاربوا، وأبشروا».
كما أن على المسلم أن لا يهمل ما يتيسر له العمل به من أحكام الشريعة؛ فإن الميسور لا يسقط بالمعسور.
حكم التصدى للفتوى
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 95، ط. دار المعرفة): [أي: الزموا السداد وهو الصواب، من غير إفراط ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل، "وقاربوا" أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه] اهـ.
وقد شاء الله تعالى أن تتباين أحوال الدعوة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوة وضعفًا، وهذا من تمام الأسوة الحسنة؛ لتكون السيرة النبوية الشريفة نبراسًا للمسلمين في كل أحوالهم عبر العصور.
وزاد أهل العلم هذا المعنى إيضاحًا؛ فصنفوا في الأحوال التي يعجز المسلمون فيها عن إقامة كل أحكام الشريعة أو بعضها؛ كما صنع إمام الحرمين الجويني في كتابه "غياث الأمم في الْتياث الظُّلَم" المعروف بالغياثي.
متغيرات الفتوى
ولا شك أن الواقع جزءٌ من الفتوى وأن الفتوى تتغير بتغير جهاتها الأربع (الزمان والمكان والأشخاص والأحوال)؛ فلا بد أن نراعي فيها ما طرأ على عوالم الواقع (عالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم النظم) من تغير عما هو معهود في التاريخ بما ليس شرًّا محضًا ولاخيرًا محضًا.
فقد تغير شكل الدولة عما عُهد في التاريخ وقامت الدولة الحديثة ومؤسساتها، وأصبح ولي الأمر فيها هو السلطة التشريعة لا أشخاص الحكام، وتنامى ما يعرف بالشخصية الاعتبارية، واتسع نشاط ما يسمى بالمجتمع المدني عن ذي قبل إلى آخر ما هنالك من التغيرات الواقعية المتعين اعتبارها عند الإفتاء؛ فيجد المفتي الحال حينئذٍ أعقد من أن يتقيد فيه بمذهب واحد، بل يضطر إلى الاختيار من المذاهب الأربعة ثم من مذاهب الفقه الإسلامي الواسع على أساس الدليل أو ترجيح المصالح واعتبار المقاصد.
شروط إختيار المفتي
وموارد الدولة في العصر الحديث ليست ملكًا لحكومتها، بل هي ملك عام بمقتضى الدستور والقانون، والمالك لموارد الدولة -غير المملوكة أصلًا لأشخاص بأعيانهم- هو الشخصية الاعتبارية المسماة بـ"الدولة" التي يمثلها عدد من الأشخاص الاعتباريين والمؤسسات والقوانين والقواعد الإدارية يتصرفون في الدولة بحسب قانونها ومصلحتها المنوطة بهم.
وعلى ذلك: فإن موارد اليونان ليست ملكًا لحكومة اليونان ولا غيرها، بل ما يكون فيها من ملكية خاصة فهو مملوكٌ لأصحابه، وما لا يكون من ذلك فهو مملوكٌ لأهل اليونان ملكيةً عامةً تنظمها الدولة عبر قانونها، وما تخصصه الحكومة بمقتضى القانون والنظام العام لا يعني بحالٍ أنها تملكه، بل تصرفها منوط بمصلحة المواطنين.
هل يجب تعيين المفتي
وتولي المناصب من قبل الحكومة داخل اليونان أمر يرجع إلى تحقيق المقاصد الشرعية المعبر عنها بتحقيق المصالح ودرء المفاسد فما رجحت مصلحته على مفسدته لم يحرم وإلا حرمت المشاركة فيه، والظن أن المشاركة في هذه الأمور في بلادكم وفي اليونان نفسها مما تترجح مصلحته على مفسدته فالحكم فيها دائرٌ بين الإباحة والاستحباب بل قد يصل إلى الوجوب في حالة ما إذا تعين لتحصيل مصلحة المسلمين كأن يكون قضاء حوائجهم متوقفًا على ذلك وبغيره لا تقضى الحوائج.
والعمل في الوظائف الحكومية بمثابة عقد يقوم فيه الموظف بعمل مقابل أجر، وهو أمر مقرر شرعًا بضوابطه فأشبه المعاملات والمعاوضات.
أحكام الأقليات المسملة
وليس ذلك من قبيل عمل المسلم عند غير المسلم أو استئجار الكافر للمسلم -الذي أباحه العلماء-؛ لأنه عملٌ في نظامٍ مؤسَّسِيٍّ تحكمه قوانينُه، ولا يحكمه الأفراد حتى نفترض تسلطهم على المسلم، فهو عملٌ مشتركٌ ينظِّمه قانونُه ويُتَحاكَم فيه إليه، وتتساوى فيه الحقوق والواجبات بين كافَّة أفراده.
وهذه الطريقة التي يتم بها تعيين المفتي في اليونان هي طريقةٌ مثلى لا غبار عليها؛ لأن الاختيار يتم من تشاور أهل الحل والعقد من علماء المسلمين والقائمين بشؤونهم، وهذا هو النظام المرضي المتبع في الإسلام.
ضوابط إنخراط الملسم في المجتمعات الغربية
وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي في المشاركة في الانتخابات فتوى محررة هي:
1- مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية من مسائل السياسة الشرعية التي يتقرر الحكم فيها في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، والفتوى فيها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.
2- يجوز للمسلم الذي يتمتع بحقوق المواطنة في بلد غير مسلم المشاركة في الانتخابات النيابية ونحوها؛ لغلبة ما تعود به مشاركته من المصالح الراجحة مثل تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام، والدفاع عن قضايا المسلمين في بلده، وتحصيل مكتسبات الأقليات الدينية والدنيوية، وتعزيز دورهم في مواقع التأثير، والتعاون مع أهل الاعتدال والإنصاف لتحقيق التعاون القائم على الحق والعدل، وذلك وفق الضوابط الآتية:
أولًا: أن يقصد المشارك من المسلمين بمشاركته الإسهام في تحصيل مصالح المسلمين، ودرء المفاسد والأضرار عنهم.
ثانيًا: أن يغلب على ظن المشارك من المسلمين أن مشاركته تفضي إلى آثار إيجابية، وتعود بالفائدة على المسلمين في هذه البلاد؛ من تعزيز مركزهم، وإيصال مطالبهم إلى أصحاب القرار، ومديري دفة الحكم، والحفاظ على مصالحهم الدينية والدنيوية.
ثالثاً: ألا يترتب على مشاركة المسلم في هذه الانتخابات ما يؤدي إلى تفريطه في دينه.
حكم عمل المسلم في المؤسسات غير المسلمة
كما نص قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 23 (11/3) وتاريخ 11/ 10/ 1986م في دورة مؤتمره الثالث بعمان بالأردن على أنه: يجوز للمسلم العمل المباح شرعًا في دوائر ومؤسسات حكومات غير إسلامية، إذا لم يؤدِّ عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين.
قال ابن عابدين: [ذكر في أول "جامع الفصولين" كل مصر فيه والٍ مسلمٌ من جهة الكفار، يجوز منه إقامة الجمع والأعياد وأخذ الخراج وتقليد القضاء وتزويج الأيامى لاستيلاء المسلم عليهم. وأما طاعة الكفر فهي موادعة ومخادعة.
وأما في بلادٍ عليها ولاةٌ كفار فيجوز للمسلمين إقامةُ الجمع والأعياد، ويصير القاضي قاضيًا بتراضي المسلمين، ويجب عليهم طلبُ والٍ مسلم. اهـ. وقدمنا نحوه في باب الجمعة عن "البزازية"] اهـ. "رد المحتار على الدرِّ المختار" (4/ 175).
ضوابط حياة المسلم فى الغرب
قال العزُّ بن عبد السلام رحمه الله: [لو استولى الكفَّار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامَّة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله، جلبًا للمصالح العامة، ودفعًا للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامَّة، وتحمل المفاسد الشاملة، لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها] اهـ. "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (1/ 85).
وتجوز المشاركة لما يلي:
أ-مشاركة يوسف عليه السلام في حكم مصر التي لم تكن وقتئذٍ بلدًا مؤمنًا؛ قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 37 -40].
ومع ذلك ساغ له طلب المشاركة في حكم مصر بما حكاه القرآن عنه من قوله: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55]، وتحقَّق له ذلك.
قال ابن تيمية رحمه الله في هذه الآيات: [الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حقِّ الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب فيقدم حينئذٍ خير الخيرين وجوبًا تارةً واستحبابًا أخرى. ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارًا، ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنَّة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له.
لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبًا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تاركَ واجب في الحقيقة] اهـ. "مجموع الفتاوى" (20/ 56-57، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية 1416ه- 1995م).
ب-موقف النجاشي الذي يرشح جواز اشتراك المسلمين في الحكومات غير الإسلامية حيث إن النجاشي كان مسلمًا، وكان يقوم على نظام يحكم بغير شرع الله، ما يترجح من أن المشاركة المضبوطة بالضوابط السابقة مما تترجح المصلحة فيه على المفسدة.
تعريف الولاء والبراء
والعمل في الوظائف المدنية أو الدينية في الدول غير الإسلامية ليس من باب ولاية غير المسلمين أو متابعتهم في عقائدهم كما زعم بعضهم، فإن التولي المنهي عنه في نصوص الشرع هو الولاء على العقيدة لا كلُّ تعاملٍ أو تعاوُنٍ على الخير، بل الأول هو المنهي عنه، والثاني مأمورٌ به وداخلٌ في عموم قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
وفي حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه الطويل في قصة صلح الحديبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا». "صحيح البخاري" (3/ 193، رقم 2731).
وقال ابن حجر رحمه الله: [في الحديث فضل الاستشارة لاستخراج وجه الرأي واستطابة قلوب الأتباع، وجواز بعض المسامحة في أمر الدين واحتمال الضيم فيه ما لم يكن قادحًا في أصله إذا تعين ذلك طريقا للسلامة في الحال والصلاح في المآل؛ سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم] اهـ. "فتح الباري" (5/ 352).
وتعيين المفتي والأئمة في ظل الدولة غير الإسلامية ليس عمالةً سياسيةً كما يزعم بعضهم، بل هو حقٌّ كَفَل لأبناء الوطن التوظيفَ في بلدهم، وواجبٌ عُلِّق بأعناقهم لحفظ دين المواطنين المسلمين وفاءً بالعقد الاجتماعي المبرم بينهم على العمل لمصلحة الوطن ومنها حفظُ الدين للمسلمين والتكفل بجميع حقوقهم، وحفظُ الدين والوفاءُ بالعهود من أولويات المقاصد الشرعية والقيم الإسلامية التي يجب كفالتها والوفاء بها.