مخاوف «عادل».. جبل «يعصمنا» من الحزن
أن تكتب عن كتاب أعجبك، تكاد تكون هذه مهمة سهلة بعض الشيء، لكن أن تنتظر لحظة
ميلاد كتاب بعينه، فهذه اللحظة تستحق أن توصف بـ«الفارقة»، فما بالك لو كانت لحظة المتعة
«مزدوجة»، ميلاد كتاب جديد لكاتب تضع مؤلفاته فى صدر مكتبك.. أما الكتاب فهو المجموعة
القصصية «مخاوف نهاية العمر» لصاحبها الكاتب القدير، عادل عصمت.
قبل الدخول في حكايات «مخاوف نهاية العمر»، من الواجب الإشارة هنا إلى أن دخول عالم عادل عصمت، بالنسبة إليَّ تحديدًا كان أشبه بالسفر إلى مكان جديد، مكان يمكن أن أصفه بـ«الوطن»، فى ظل ما يحمله من مشاعر وأحاسيس دافئة، لا مكان فيه لـ«التجميل» غير المرغوب فيه، أو «التقعير» الذي لطالما كان آفة بعض من يكتبون لنا فى هذه الأيام.
«عصمت» - مع حفظ الألقاب والمقامات - من أول وهلة يشعرك أنه ليس مجرد اسم لكاتب روائي وقاص يتمتع بموهبة تصيبك بـ«الغيرة» مما يكتبه فى أحيان، وفي أحيان كثيرة يجعلك أسيرًا لـ«الدهشة»، ورغم الجوائز والانتشار الكبير الذي حققه «عصمت» وكتاباته، والجوائز التي وقفت على عتبة باب بيته فى انتظار أن يفتح لها الباب، فإنني أظن - وليس كل الظن إثم - أنه لم يأخذ حقه كاملًا، سواء على خريطة الثقافة المصرية، أو العربية، وذلك لأسباب عدة، لا داعي لذكرها هنا.
.. و«إسرائيل صارت قُطر شقيق»
وبالعودة إلى المجموعة القصصية «مخاوف نهاية العمر»، أحدث مؤلفات صاحبها عادل عصمت، نجد أنها من الجملة الأولى تعبر عن صاحبها، وتستكمل مسيرة اختارها «عصمت» منذ لحظة ميلادها الأولى بوصفه قاصًا وروائيًّا، فـ«البسطاء» هم أبطالها، بأحلامهم البسيطة كحياتهم، وأزماتهم الموجعة المزمنة، وموتهم الذي لا يشعر به أحد سواهم، إلا فيما ندر.
«الحياة، الموت، الحب، الانكسار».. حالات عدة تجدها فى تفاصيل القصص السبع التي تضمها مجموعة «مخاوف نهاية العمر»، فـ«عم نسيم» بطل «قصة الفجر» يقدم لنا رؤية جديدة لـ«أصعب لحظة فى السجن»، فعندما سأل رفاقه فى الزنزانة عن أصعب لحظة فى السجن، قال واحد: «أول يوم»، وقال آخر: «بعد الزيارة» وثالث أجاب «حفلات التعذيب»، ورابع قال: «جلسات التحقيق»، وعندما صمتوا جميعًا قال «عم نسيم»: «الفجر».. قالها وانتظر سنوات طويلة من يفهم مغزى الإجابة هذه، وأعاد الحكاية مرات عديدة لكن أحد لم يفهم.
أما «زينب» بطلة قصة «زينب فخر الدين»، فيكشف «عصمت» برحيلها زاوية جديدة للموت، فـ«البنت التى رمت نفسها فى البحر» تحرر موتها من كونه اضطرارًا وتكفيرًا عن ذنب ليكون نوعًا من الطقس لاستعادة البراءة، بعدما ذهب إلى النهر لكى تستعيد نفسها التى ضاعت منها، ذهبت لتسلم زينب الحالية التى سكنتها كي تضيع فى النهر وتتلقى الأخرى التى أضاعتها، ومن ثم لم تكن ذاهبة إلى الموت وإنما إلى الخلاص، لكي تتخلص من ثقل لا يحتمل وتستعيد الخفة التي فقدتها، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا فى النيل. مطهر الأجساد من أدرانها.
ولأن «القاهرة» وعلى عكس غالبية الروائيين، مجرد مكان هامشي يلجأ إليه «عصمت» وقت الحاجة، فإن العاصمة الموحشة هذه لجأ إليها محمود الأنصاري، بطل قصة «الوطن»، هاربًا من أسئلة والدته الراحلة عن ثديها الذي أضاعه الابن في أروقة المستشفيات والمعامل ولم يدفنه كما أخبرته بحزم بعدما أفاقت من عملية الاستئصال التى خضعت إليها.. هرب سنوات من بلدته الصغيرة، إلى القاهرة، ثم إلى إحدى العواصم النفطية، وفى كل مرة كان يعود فيها إلى مسقط رأسه كان يضع زيارة قبر أمه على رأس جدول الزيارة، لكن ذلك لم يتحقق ولا مرة واحدة..!
مرثاةٌ من برج الثور
«صدام حسين والأحلام الضائعة وبطرمان الفياجرا».. ثلاثية موجعة يطرق «عصمت» بابها فى «رياح الخماسين»، متتبعًا خطوات «نجيب البيلي» منذ كان يلعب الكرة فى الحارة ويأتيه صوت جدته زاعقًا «يا واد نجيب، قل لأم عادل هاتي بطرمان سكر»، ومرورًا برحلته وصديق العمر «حسين إدريس» إلى العراق، وأحلامها التى تحطمت بعدما قرر صدام حسين غزو العراق، والأسى الذي يدور به النقاش ويكشف عن أنهما لم يتمكنا من بلورة رأي حول السبب الذي أعادهما إلى هنا، وصمتهما الجاد الحزين في قلب النقاش تجسيد لحيرة السؤال الأزلي: أين الحقيقة؟ ما حقيقة ما حدث فعلًا؟ هل كان صدام يريد حقًا أن يدخل الكويت أم أنه مجرد رقعة شطرنج فى دور تحركه القوى الكبرى فى العالم؟
«ولست أطمع فى أكثر من أموت موتًا له معنى».. عبارة للروائي الراحل، نجيب محفوظ، من رواية «اللص والكلاب»، اختارها «عصمت» وهو المتيم بـ«محفوظ» حد العشق، ليروي لنا حكاية «مريم» التي تدور باحثة عن التفاصيل الدقيقة وراء خبر موت «إبراهيم عيد فرحات»، الذي استشهد في عملية فدائية حسب بيان منظمة الجهاد الإسلامي في فلسطين.
«لن أبيع البيت» جملة قاطعه اختارها «عصمت» لينهي بها قصة «مخاوف نهاية العمر»، جاءت على لسان «الست عنايات» التي تخشى أن يدس لها ابن أخيها السم فى الأكل، رغم موته منذ سنوات، حتى يتمكن الورثة من بيع البيت الذي ورثته عن أبيها، وخوفها هذا يدفعها إلى الجنوح إلى الشك فى الجميع، أبنائها، أبناء أخيها، «ولاد كبار البلد» الذين يقفون أمام كشك «أم أشرف» والآخرين الذين يسندون أحلامهم إلى سور المركز الطبي، و«صوت الغراب» الذي لا تمل من تتبع أثره، ومحاولة التعرف على الزاوية التي ينعق منها، ووسط «حبات الحلبة» التي توقفت عن التحديق إليها خوفًا من اتهامها بـ«الجنون» ومن ثم منح الورثة فرصة لـ«الحجر عليها» وبيع بيت أبيها.
قبل الدخول في حكايات «مخاوف نهاية العمر»، من الواجب الإشارة هنا إلى أن دخول عالم عادل عصمت، بالنسبة إليَّ تحديدًا كان أشبه بالسفر إلى مكان جديد، مكان يمكن أن أصفه بـ«الوطن»، فى ظل ما يحمله من مشاعر وأحاسيس دافئة، لا مكان فيه لـ«التجميل» غير المرغوب فيه، أو «التقعير» الذي لطالما كان آفة بعض من يكتبون لنا فى هذه الأيام.
«عصمت» - مع حفظ الألقاب والمقامات - من أول وهلة يشعرك أنه ليس مجرد اسم لكاتب روائي وقاص يتمتع بموهبة تصيبك بـ«الغيرة» مما يكتبه فى أحيان، وفي أحيان كثيرة يجعلك أسيرًا لـ«الدهشة»، ورغم الجوائز والانتشار الكبير الذي حققه «عصمت» وكتاباته، والجوائز التي وقفت على عتبة باب بيته فى انتظار أن يفتح لها الباب، فإنني أظن - وليس كل الظن إثم - أنه لم يأخذ حقه كاملًا، سواء على خريطة الثقافة المصرية، أو العربية، وذلك لأسباب عدة، لا داعي لذكرها هنا.
.. و«إسرائيل صارت قُطر شقيق»
وبالعودة إلى المجموعة القصصية «مخاوف نهاية العمر»، أحدث مؤلفات صاحبها عادل عصمت، نجد أنها من الجملة الأولى تعبر عن صاحبها، وتستكمل مسيرة اختارها «عصمت» منذ لحظة ميلادها الأولى بوصفه قاصًا وروائيًّا، فـ«البسطاء» هم أبطالها، بأحلامهم البسيطة كحياتهم، وأزماتهم الموجعة المزمنة، وموتهم الذي لا يشعر به أحد سواهم، إلا فيما ندر.
«الحياة، الموت، الحب، الانكسار».. حالات عدة تجدها فى تفاصيل القصص السبع التي تضمها مجموعة «مخاوف نهاية العمر»، فـ«عم نسيم» بطل «قصة الفجر» يقدم لنا رؤية جديدة لـ«أصعب لحظة فى السجن»، فعندما سأل رفاقه فى الزنزانة عن أصعب لحظة فى السجن، قال واحد: «أول يوم»، وقال آخر: «بعد الزيارة» وثالث أجاب «حفلات التعذيب»، ورابع قال: «جلسات التحقيق»، وعندما صمتوا جميعًا قال «عم نسيم»: «الفجر».. قالها وانتظر سنوات طويلة من يفهم مغزى الإجابة هذه، وأعاد الحكاية مرات عديدة لكن أحد لم يفهم.
أما «زينب» بطلة قصة «زينب فخر الدين»، فيكشف «عصمت» برحيلها زاوية جديدة للموت، فـ«البنت التى رمت نفسها فى البحر» تحرر موتها من كونه اضطرارًا وتكفيرًا عن ذنب ليكون نوعًا من الطقس لاستعادة البراءة، بعدما ذهب إلى النهر لكى تستعيد نفسها التى ضاعت منها، ذهبت لتسلم زينب الحالية التى سكنتها كي تضيع فى النهر وتتلقى الأخرى التى أضاعتها، ومن ثم لم تكن ذاهبة إلى الموت وإنما إلى الخلاص، لكي تتخلص من ثقل لا يحتمل وتستعيد الخفة التي فقدتها، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا فى النيل. مطهر الأجساد من أدرانها.
ولأن «القاهرة» وعلى عكس غالبية الروائيين، مجرد مكان هامشي يلجأ إليه «عصمت» وقت الحاجة، فإن العاصمة الموحشة هذه لجأ إليها محمود الأنصاري، بطل قصة «الوطن»، هاربًا من أسئلة والدته الراحلة عن ثديها الذي أضاعه الابن في أروقة المستشفيات والمعامل ولم يدفنه كما أخبرته بحزم بعدما أفاقت من عملية الاستئصال التى خضعت إليها.. هرب سنوات من بلدته الصغيرة، إلى القاهرة، ثم إلى إحدى العواصم النفطية، وفى كل مرة كان يعود فيها إلى مسقط رأسه كان يضع زيارة قبر أمه على رأس جدول الزيارة، لكن ذلك لم يتحقق ولا مرة واحدة..!
مرثاةٌ من برج الثور
«صدام حسين والأحلام الضائعة وبطرمان الفياجرا».. ثلاثية موجعة يطرق «عصمت» بابها فى «رياح الخماسين»، متتبعًا خطوات «نجيب البيلي» منذ كان يلعب الكرة فى الحارة ويأتيه صوت جدته زاعقًا «يا واد نجيب، قل لأم عادل هاتي بطرمان سكر»، ومرورًا برحلته وصديق العمر «حسين إدريس» إلى العراق، وأحلامها التى تحطمت بعدما قرر صدام حسين غزو العراق، والأسى الذي يدور به النقاش ويكشف عن أنهما لم يتمكنا من بلورة رأي حول السبب الذي أعادهما إلى هنا، وصمتهما الجاد الحزين في قلب النقاش تجسيد لحيرة السؤال الأزلي: أين الحقيقة؟ ما حقيقة ما حدث فعلًا؟ هل كان صدام يريد حقًا أن يدخل الكويت أم أنه مجرد رقعة شطرنج فى دور تحركه القوى الكبرى فى العالم؟
«ولست أطمع فى أكثر من أموت موتًا له معنى».. عبارة للروائي الراحل، نجيب محفوظ، من رواية «اللص والكلاب»، اختارها «عصمت» وهو المتيم بـ«محفوظ» حد العشق، ليروي لنا حكاية «مريم» التي تدور باحثة عن التفاصيل الدقيقة وراء خبر موت «إبراهيم عيد فرحات»، الذي استشهد في عملية فدائية حسب بيان منظمة الجهاد الإسلامي في فلسطين.
«لن أبيع البيت» جملة قاطعه اختارها «عصمت» لينهي بها قصة «مخاوف نهاية العمر»، جاءت على لسان «الست عنايات» التي تخشى أن يدس لها ابن أخيها السم فى الأكل، رغم موته منذ سنوات، حتى يتمكن الورثة من بيع البيت الذي ورثته عن أبيها، وخوفها هذا يدفعها إلى الجنوح إلى الشك فى الجميع، أبنائها، أبناء أخيها، «ولاد كبار البلد» الذين يقفون أمام كشك «أم أشرف» والآخرين الذين يسندون أحلامهم إلى سور المركز الطبي، و«صوت الغراب» الذي لا تمل من تتبع أثره، ومحاولة التعرف على الزاوية التي ينعق منها، ووسط «حبات الحلبة» التي توقفت عن التحديق إليها خوفًا من اتهامها بـ«الجنون» ومن ثم منح الورثة فرصة لـ«الحجر عليها» وبيع بيت أبيها.