رئيس التحرير
عصام كامل

ما حكم الشرع في السرقات والتعديات على مياه الشرب والصرف الصحي؟.. مفتى الجمهورية يجيب

الإسراف في إستخدام
الإسراف في إستخدام المياه
أرسلت الشركة القابضة لمياه والشرب الصحي سؤال إلى دار الإفتاء تقول فيه أنها تدير مرافق مياه الشرب والصرف الصحي (محطات وشبكات) وهي مال عام مملوك بالكامل للدولة، وتتعرض تلك المرافق وبالتالي المال العام لأنواع مختلفة من الأضرار بممارسات؛ منها:


• عمل توصيلات مياه شرب وصرف صحي غير قانونية (خلسة) بدون معرفة الشركة، تتسبب في الإضرار بالشبكات والاستفادة بخدمات مياه الشرب والصرف الصحي دون دفع تكاليفها (سرقة الخدمة)؛ مما يعود على الشركات التي تدير المال العام بخسائر فادحة.

• استهلاك مياه الشرب التي تم دعم سعرها من جانب الدولة في غير الأغراض المخصصة لها (غسيل السيارات، ري المزروعات، رش الشوارع) مما يتسبب في حرمان المواطنين الآخرين من نصيبهم من هذه المياه، بالإضافة إلى خسارة الاستثمارات التي تم ضخها لتنقية المياه بغرض الشرب وليس للأغراض الأخرى.

• الإضرار بالعدادات التي تقيس استهلاك المواطنين بهدف تخفيض قيمة الاستهلاك.

وفي إطار حملات التوعية التي تقوم بها شركات مياه الشرب والصرف الصحي للمواطنين للتوقف عن هذه الممارسات، ونظرًا للحس الديني العميق الذي يتميز به الشعب المصري، والمكانة السامية التي تتبوأها دار الإفتاء المصرية الموقرة في قلوب المواطنين، لذا: يرجى التكرم من فضيلتكم بالتوجيه بما يلزم نحو إبداء الحكم الشرعي في الممارسات السابق ذكرها ليتسنى لنا دعم جهود توعية المواطنين بالفتوى الشرعية من جانب فضيلتكم؛ تطبيقًا للمبدأ الفقهي "لا ضرر ولا ضرار".

ومن جانبه أجاب الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية على هذا السؤال، المتعلق بحكم الشرع فى التعديات والسرقات على مياه الشرف والصرف الصحى كالتالى:

الماء من النعم التي لا يستغنى عنها كائن حي على وجه الأرض؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]؛ فبها يحيا الإنسان والحيوان والنبات، وعليها تزدهر الأمم وتقوم الحضارات، ولا يكاد يخلو مشروع اقتصادي أو زراعي أو صناعي من الحاجة إلى المياه في كل المجالات، ومن هنا كانت المحافظة عليها واجبًا شرعيًّا على الأفراد والحكومات.

وتوفير الانتفاع بالمياه وعملية إيصالها لمحتاجيها على الوجه الصالح لاستخدامها يكلف الدولة نفقات باهظة؛ يتطلبها حفر الطرق، وتمديد الشبكات، وتركيب المحطات، والمراحل العديدة للمعالجة والتكرير والتنقية، وتتحمل الدولة النصيب الأكبر من هذه التكاليف؛ دعمًا للمواطنين ومراعاةً لذوي الدخل المحدود، وتفرض في المقابل أسعارًا رمزية يجب إيفاؤها، ويحرم التهرب من دفعها؛ لتكفل بذلك استمرار عمليات معالجته، ودوام توفره، مما يجعل سرقة توصيلات المياه تعديًّا على المال العام الذي تتكفل الدولة بحفظه، وخرقًا للنظام ومخالفةً لولي الأمر، وخيانة للأمانة، وتغذية للجسم بالحرام، وإضرارًا بالمصلحة العامة التي أعلى الإسلام شأن الحفاظ عليها.

حكم عمل توصيلات مياه شرب وصرف صحي غير قانونية

فأما كونه تعديًا على المال العام: فإن في الانتفاع بالمياه دون دفع الرسوم المخصصة لها استحلالًا لما يقابل تكاليف نقل هذه المياه ومعالجتها دون وجه حق، ومن المقرر أن حفظ المال من المقاصد الشرعية التي جاء بها الشرع الشريف، وتوعد من تعدى عليه بأي صورة من صور التعدي سواء كان بالسرقة أو الاختلاس أو الانتهاب أو أخذه دون وجه حق، ويزداد الأمر حرمةً إذا كان المال مالًا عامًّا يتعلق الحقُّ فيه بجميع المواطنين لا بفرد بعينه، وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29].


وعن أبي بَكرةَ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَليْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» أخرجه مسلم في "صحيحه".

وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» أخرجه البخاري في "الصحيح".

وقال العلامة ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 219، ط. دار المعرفة): [أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل، وهو أعم من أن يكون بالقسمة وبغيرها] اهـ.

وأما كونه خرقًا للنظام ومخالفة لولي الأمر: فإن تنظيم الانتفاع بالمرافق في الدولة مضبوط بقواعد وعقود مبرمة بين المواطنين والدولة، ومحكوم بقوانين تحفظ مصالح الناس في المعاش، وقد نصت اللوائح والقوانين على منع سرقة المياه وتجريم فاعل ذلك، ويجب شرعًا الامتثال لذلك؛ إذ أمر الله تعالى بطاعة ولي الأمر في غير معصية؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59].

حكم استهلاك مياه الشرب في غسيل السيارات

وقال الإمام النووي الشافعي في "شرح صحيح مسلم" (12/ 222، ط. دار إحياء التراث العربي): [أجمع العلماء على وجوبها -أي: طاعة الأمراء- في غير معصية، وعلى تحريمها في المعصية، نقل الإجماع على هذا القاضي عياض وآخرون] اهـ.

وأما كون ذلك خيانة للأمانة: فلأن مخالفة تلك العقود وتضييعها هو من الخيانة المنهي عنها، والخيانة فيما يضر بحق المجتمع أشد إثما وأقبح جرمًا مما يضر بحق الأفراد؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيانة الأمانة وإخلاف الوعد من صفات المنافق؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه.

وأما كونه تغذية للجسم بالحرام: فلأن فاعل ذلك يشرب ويأكل ما لم يأخذه بحقَّه؛ فيكون ذلك أكلًا للمال الحرام، وقد تواردت النصوص في الوعيد لمن نبت لحمه من محرم.

فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ وَدَمٌ نَبَتَا عَلَى سُحْتٍ؛ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» أخرجه أحمد في "مسنده" والدارمي في "سننه" مختصرًا، وصححه ابن حبان والحاكم، وحسنه الترمذي من حديث كعب بن عُجْرة رضي الله عنه.

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «أَيُّمَا لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» أخرجه الحاكم في "المستدرك" والبيهقي في "شعب الإيمان".

وأما كون ذلك إضرارًا بالمصلحة العامة: فلما يؤدي إليه من انتشار الفساد وضياع الحقوق؛ إذ إن توصيل خدمة المياه والصرف الصحي دون الالتزام بالبنود القانونية المبرمة لأجل ذلك من تعاقد بين الشخص المشترك وشركة المياه، ودفع ما يلزم من رسوم مقابل الانتفاع بالخدمة، يحمِّل شركات المياه خسائر مالية، نتيجة لهذه الممارسات غير الأخلاقية، ويضر بطاقتها الإنتاجية، ويضعف قدرتها على استيعاب توصيل المياه للمستحقين لها، كما يضر بعموم الناس؛ لما يلزم عن ذلك من ارتفاع أسعار الخدمة المقدمة إليهم لتغطية الخسائر المالية الناتجة عن هذه السرقات، وقد جاءت الأحكام القطعية في الشريعة الإسلامية بتحريم الإضرار بالغير.

حكم الإضرار بعدادات المياه 

فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» متفق عليه.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» رواه الدارقطني، والحاكم في "المستدرك" وصححه، والبيهقي في "السنن".

والأصل في الدعم الحكومي: رعاية حاجة الفقراء والمساكين ومحدودي الدخل، وقد تكلفت الدولة في ذلك المبالغَ الباهظة من أجل تحلية هذه المياه لجعلها صالحة للطعام والشراب، لا لكي تُرَشَّ بها الطرقات، وتُغسَل بها السيارات، فإذا تم استغلالها في غسيل السيارات ورش الشوارع زاد ذلك عن كونه سرقة للمال العام، إلى كونه إهدارًا له في غير ما خصص له، وقد تواردت النصوص على تحريم السرقة وأكل أموال الناس بالباطل، كما تواردت النصوص على تحريم إهدار المال في غير ما وضع له.

وروى الشيخان في "صحيحيهما" أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ».


حكم الإسراف في إستخدام المياه

ولا يخفى أن إهدار هذه الكميات الكبيرة من الماء في الطرقات وفي غسيل السيارات، سيؤثر حتمًا على نصيب الفرد في حصته من الماء المدعومة من قبل الدولة والمخصصة للاستهلاك الإنساني بمعايير وكميات مضبوطة حسب الحاجة الاستهلاكية، إما بنقصان هذه الحصة، وإما بزيادة الأسعار، وكلا الأمرين ضرر حتمي على غالب أفراد المجتمع يستوجب الإثم الشرعي والعقوبة القانونية.

وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَإِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ»: فالمقصود بالماء فيه: الماء المطلق عن الحرز؛ كماء العيون والآبار والأنهار، لا الماء المقيد بحرز والمعالج بتقنيات ووسائل مكلفة؛ كشبكات ومحطات المعالجة والتحلية والتنقية التي تتكلف مبالغ طائلة في إقامتها وصيانتها حتى تضمن مناسبة الماء للاستخدام الإنساني، حتى فرضت الدولة الرسوم المالية مقابل الانتفاع بخدمة توصيل المياه مع مراعاة تقديم الدعم المناسب لعموم أفراد المجتمع، حتى لا يكون هناك ضرر عائد على المواطنين ولا على الشركات.

وقال العلامة البيضاوي في "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" (2/ 300، ط. وزارة الأوقاف): [والمراد بـ (الماء): المياه التي لم تحدث باستنباط أحد وسعيه، كماء القنى والآبار، ولم يحرز في إناء، أو بركة، أو جدول مأخوذ من النهر] اهـ.

وجاء في "المفاتيح في شرح المصابيح" (3/ 508، ط. وزارة الأوقاف الكويتية): [يعني: الماء الذي يجري في نهرٍ ليس ملكًا لأحد، أو في عينٍ مباحة] اهـ.

وقال العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (12/ 190، ط. دار إحياء التراث): [والمراد: شركة إباحة لا شركة ملك، فمن سبق إلى أخذ شيء منه في وعاء أو غيره وأحرزه فهو أحق به، وهو ملكه دون سواه] اهـ.

حكم سرقة المياه

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يحرم شرعًا الانتفاع بموارد الدولة من شبكات المياه والصرف الصحي عن طريق عمل توصيلات غير قانونية من أجل التهرب من دفع الرسوم المقررة لذلك؛ لما في ذلك من السرقة المحرمة وأكل أموال الناس بالباطل، والإضرار بالمصلحة العامة، وخرق النظام، وخيانة الأمانة، ومخالفة ولي الأمر الذي أمر الشرع بطاعته، ولا يخفى ما وراء ذلك من انتشار للفساد وضياع للحقوق، بالتعدي على حق الفقراء ومحدودي الدخل باستغلال الحصة المخصصة لحاجتهم الأصلية من الماء المدعوم في غير ما خصصت له.

ولا يحق لأحد الادعاء بأن الماء حق له والناس شركاء فيه فيبيح لنفسه سرقته؛ إذ إن أحقية الإنسان في الماء وشراكته فيه إنما يكون فيما هو مطلق؛ كالآبار والعيون، لا في الماء المحرز الذي بُذِلَت الأموالُ لأجل تنقيته وتحليته. وهذا كله يجعل عمل توصيلات المياه والصرف الصحي بصورة غير قانونية والتهرب من دفع رسومها أمرًا محرمًا شرعًا.
الجريدة الرسمية