سيناريوهات صراع الكبار على «خيرات» القارة السمراء.. السلاح الأمريكي يواجه الاقتصاد الصيني.. والمعونات الفرنسية تحارب الأطماع التركية
«من البحث عن الثروة.. إلى الصراع على مناطق النفوذ».. عنوان عريض يمكن اللجوء إليه عند محاولة إلقاء الضوء على ما يحدث في افريقيا، فـ«القارة السمراء» التي أجمع العديد من المحللين على أنها «أرض المستقبل والثروات»، شهدت خلال السنوات الماضية محاولات العديد من الدول البحث عن موطأ قدم فيها.
تضارب المصالح
ولكن مع مرور الوقت، بدأ تضارب المصالح والصراع حولها يشتعل، وأطلقت كل دولة حملات تستهدف وقف تمدد منافسيها، باستغلال بعض أدوات الضغط التي تمكنت من خلقها خلال السنوات الأخيرة في مناطق وجودها.
«ينتهجون إستراتيجية تأجيج المشاعر لمناهضة المصالح الفرنسية في افريقيا».. اتهام أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ضد النظام الروسي وحليفه التركى، وذلك على خلفية تصاعد وتيرة الهجوم على بلاده، في أعقاب أزمة الرسوم المسيئة التي أثارت الجدل مؤخرًا، والتي اعتبر «ماكرون» أنها حملة ممنهجة ضده، عن طريق -ما وصفه- بـ«التحريف المتعمد» لتصريحاته عن مساندة حرية الرأي والتعبير، لإظهارها وكأنها دعم للإساءة إلى الدين الإسلامي.
فرنسا
مؤكدًا أن من يفبرك التصريحات والفيديوهات المعادية لفرنسا «مرتشون» من روسيا وتركيا، مع اللعب على توجيه النظر إلى فرنسا كمستعمر، واستحضار أحداث تاريخية تشوه الصورة الحالية لباريس، بحسب وصفه. فرنسا.. ترتبط بالعديد من المصالح المتشابكة والمتجذرة في افريقيا منذ زمن، ولديها جالية تقارب ربع مليون نسمة يعملون في افريقيا.
هذا إلى جانب أنها تعتبر أكبر مانح للمعونات الاقتصادية في افريقيا، ولديها قدر كبير من الاستثمارات داخل القارة، والتي بُنيت بالأساس على الروابط المتنوعة معها سواء كانت اللُّغوية أو الثقافية «الفرانكفونية».
كما أن فرنسا تعتبر المستورد الأكبر للمواد الخام، وفي نفس الوقت المصدر الأضخم للسلع التي تُصنع في الدول الفرانكفونية بافريقيا في نحو 30 دولة، ومن أبرز الدول التي تحرص فرنسا على الحفاظ على مصالحها فيها النيجر، رابع أكبر مصدر لليورانيوم، باعتبار أن الأولى تولد 75% من طاقتها الكهربية من الطاقة النووية، وتعتمد على وارداتها من اليورانيوم بنسبة 25% من الثانية لذلك تحتكر فرنسا إنتاج مناجم اليورانيوم النيجرية منذ أكثر من خمسة عقود.
وفى افريقيا الوسطى تدخلت في المناطق التي يوجد بها مناجم الماس لحمايتها وقت الحرب، وكذلك تدخلها في ليبيا وعقود النفط والمكاسب التي حققتها بعد ذلك التدخل. ولعل ما سبق وضع المصالح الفرنسية في تداخل مع المطامع التركية في افريقيا، لا سيما بعدما عمدت «أنقرة» خلال السنوات الأخيرة ضمن سياساتها التوسعية، على تعزيز تواجدها في الدول النفطية، وعلى رأسها ليبيا.
والتي ظلت تتوغل فيها عن طريق علاقاتها الوطيدة مع جماعات الإسلام السياسي، وإبرام اتفاقات مشبوهة كاتفاق ترسيم الحدود البحرية، والتي ظلت تخطط له من أجل توفير الغطاء القانوني المزعوم لعمليات التنقيب غير الشرعية عن الغاز في المتوسط، إضافة إلى نظرتها إلى عقود إعادة الإعمار التي تنتظر أن تجني المليارات من ورائها.
المطامع التركية الروسية
«المطامع التركية» تزامنت معها خطة روسية حاولت «موسكو» من خلالها تعزيز استثماراتها في افريقيا، وسعت لتثبيت أقدامها داخل القارة السمراء، وظهر ذلك في دول مثل جمهورية أفريقيا الوسطى، التي تتمتع بموقع إستراتيجي وثروات هائلة، والمشاركة الهائلة في دعم بناء محطة للطاقة النووية في جنوب افريقيا، وعقد اتفاقات تجارية بمبالغ هائلة بين الطرفين، إضافة إلى نظرتها هي الأخرى على الأرباح الضخمة التي قد تتحقق من خلال مشاركة كبرى شركاتها في عمليات إعادة الأعمار في دول مثل ليبيا، الأمر الذي جعل من روسيا منافسًا شرسا لفرنسا في افريقيا.
الصين وأمريكا
تتشابك أيضَا من جهة أخرى، مصالح الصين وأمريكا في افريقيا، والتي أصبحت ساحة أخرى للحرب الباردة بين البلدين، ونجد أن الصين استثمرت مليارات في تدريب العمالة وتبادل برامج الطلبة بافريقيا، وعملت وفق إستراتيجية شاملة في القارة السمراء، باستخدام إمكاناتها الاقتصادية والتجارية الهائلة واستثماراتها الضخمة في القارة، خاصة في مجالات البنية التحتية والطاقة، وحققت تفوق نسبي على الولايات المتحدة، وأصبح نهج الصين تجاه افريقيا تحديا رئيسيا لـ«المصالح الأمريكية»، لأن التمويل الصيني يتدفق إلى أفريقيا دون قيود.
الأمر الذي جعل بكين بديلًا سهلًا عن «لمساعدة الإنمائية المشروطة» من الغرب والمؤسسات المالية متعددة الأطراف.
وفى هذا السياق قال الدكتور أشرف كمال، مدير مركز الدراسات المصرية الروسية : بالنسبة للاتهامات ربما يصدق كلام الرئيس الفرنسي حول التدخلات التركية ومحاولة «أردوغان» تأجيج الصراع في مناطق مختلفة من العالم مثل لبنان، سوريا إقليم ناجورني كاراباخ، الساحل والصحراء، مالي وليبيا، وكل هذه الممارسات التركية تؤجج مشاعر الكراهية ضد أوروبا بالكامل، وخاصة ضد الوجود الفرنسي، فنحن نعلم أن لفرنسا وجودا في مالي ولها أيضا تحرك سياسي بشأن الأزمة الليبية، والأمر ذاته بالنسبة للأزمة السورية.
حرب التصريحات
وتابع: حرب التصريحات المتبادلة بين «ماكرون» و«أردوغان» متوقعة، فالممارسات التركية تأتي ضد المصالح الفرنسية التي تسير في اتجاه معاكس لها سواء في ليبيا وسوريا ولبنان ومنطقة الساحل والصحراء، وحتى المستعمرات الفرنسية القديمة في القارة السمراء، وتركيا تعمل على تأجيج الصراع ضد فرنسا والاتحاد الأوروبي، بحثا عن شماعة لتصدير مشاكلها الداخلية، مستغلة في ذلك الإرث الاستعماري المسيء لفرنسا في القارة السمراء.
أما فيما يتعلق بالتحركات والإستراتيجيات الروسية، فقال «د.أشرف»: الوجود الروسي في افريقيا لا يمكنه بشكل أو بآخر أن يؤثر على الوجود الفرنسي الممتد لعقود طويلة في القارة السمراء وفي الغرب الأفريقي بصفة خاصة، فالسياسة الروسية بطبيعتها لا تميل إلى مثل هذه المشاعر تجاه الدول الأخرى، فتلك السياسة حسب المعلن والتصريحات والممارسات التي نراها على الأرض تقوم على أساس من التعاون المشترك، في إطار ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
ولا توجد أي وسائل اتصال بين روسيا والجماعات الإرهابية والمتطرفة للتشجيع على الفكر المتطرف كما يزعم ماكرون، مشيرا إلى أن روسيا في قوانينها تعتمد على تجريم الفكر المتطرف ولديها قائمة بتلك الجماعات وعلي رأسها جماعة الإخوان الإرهابية التي تدعمها تركيا.
مدير مركز الدراسات المصرية الروسية، أشار إلى أن «تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة تهدف إلى محاولة تصدير مشكلاته وخاصة الشمال الأفريقي والبحث عن سبب لحفظ ماء الوجه أمام الداخل الفرنسي».
عداء تركي لفرنسا
في السياق ذاته، قال محمد ربيع الديهي، الباحث في الشأن التركي: رأس النظام التركي يكن عداء شديدا لفرنسا التي ساهمت بصورة أو بأخري في وقف المخططات التركي في سوريا وليبيا، إضافة إلى الطموح التركي في غاز شرق المتوسط، فـ«باريس» تبنت موقف معارض لـ«أنقرة» في تلك السياسات التدخلية ولم تخف هذا التوجه على الصعيد الدولي، بل على العكس تمامًا عملت على حث المجتمع الدولي لمواجهة الطموح التركي الذي يقوم على إحياء إرث الخلافة العثمانية من خلال دعم الفوضى والإرهاب.
وهو الأمر الذي أدي إلى فشل الطموح التركي في المنطقة العربية، لذلك عملت تركيا على تبني إستراتيجية أكثر عداء لفرنسا في أماكن تواجد النفوذ الفرنسي في افريقيا تحديدًا، بهدف إفشال مساعي الأخيرة لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، فضلًا عن أن الموقف الفرنسي الذي تبنته داخل الاتحاد الأوروبي والذي كشف تركيا أمام دول الاتحاد الأوروبي وخلق رأي عام أوروبي معارض للسياسات التركية، ليس هذا فحسب، لكن بدأت تظهر مطالبات بفرض عقوبات على تركيا من الاتحاد الأوروبي.
وكشف «الديهي»أن تركيا تستخدم مجموعة من الأدوات داخل القارة الأفريقية لتحقيق طموحاتها، وفي مقدمة هذه الأدوات المعونات والمساعدات التي تقدمها للشعوب الأفريقية بحجة مساعدة الدول الأفريقية في القضاء على الفقر والفساد، في حين تستخدم تلك المساعدات من أجل زيادة فقر الشعوب الأفريقية وزيادة معدلات الفساد، هذا إلى جانب استخدام أنقرة أداة التعليم والمنح الدراسية بهدف كسب ود الشعب الأفريقي، فضلا عن فرض اللغة التركية داخل المدارس والجامعات التي تبنيها تركيا في افريقيا في محاولة للغزو الثقافي، إضافة إلى بناء مدارس عسكرية أو اتفاقيات تعاون عسكري بين الدول الأفريقية.
ناهيك عن الدعم المستمر للإرهاب في تلك الدول وتغذية التفرق الطائفية والعنصرية في افريقيا، وتابع: إستراتيجية تركيا تهدف إلى إحياء الإرث العثماني والاستيلاء على ثروات الشعوب الأفريقية، لا سيما وأن الدول الأفريقية هي دول غنية بالثروات المتنوعة التي لم تكتشف حتى الآن، وتركيا تسعي لتحقيق هذا الأمر من خلال نشر الفوضى والعنف والإرهاب وتهريب تلك الثروات إلى تركيا، في حين تنشر فرنسا بنشر قواتها المسلحة لمواجهة الإرهاب والأفكار الإرهابية في الدول الأفريقية.
ومن هنا تختلف المصالح بين البلدين، فكل عاصمة تسعى نحو السيطرة على ثروات الشعوب الأفريقية، لكن إحداها يستخدم الإرهاب لسرقة هذه الثروات وهي تركيا، والأخرى تستخدم ذريعة محاربة الإرهاب في افريقيا بهدف السيطرة على الثروات أو أن تكون شريكا في استخراجها.
شرق المتوسط
أما فيما يتعلق بصراع النفوذ بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية في منطقة شرق المتوسط، فقالت الدكتورة نادية حلمي، أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف، الخبيرة في الشئون السياسية الصينية والآسيوية: على الصعيد الأمني نجد تضاربا في المصالح بين الصين والولايات المتحدة، حيث تميل واشنطن في الفترة الأخيرة لتكوين شبكة تحالفات ضد الصين، من خلال تقسيم واشنطن لدول المنطقة ما بين حلفاء لها أو أعداء.
وبالتالي تسعى واشنطن لبناء تحالف ضد ما تسميهم بحلفاء الصين وعلى رأسهم إيران، حيث يدافع الرئيس الصيني شي جين بينج عن مبادئ (التعددية وتقاسم المنافع بين الجميع) في إطار شعاره الدولى المعروف بـ«المصير المشترك للبشرية»، والدعوة لعالم يتشارك فيه الجميع المنافع اقتصاديًا، مع الدعوة الصينية لبناء شراكات مع جميع الأطراف في الشرق الأوسط بغض النظر عن درجة قربهم أو بعدهم عن واشنطن، بما في ذلك جميع حلفاء الولايات المتحدة بالإضافة إلى إيران، وهو ما يتناقض مع جوهر العقيدة الأمنية الأمريكية التي تسعى للتقسيم ما بين حليف لها وعدو وتتعامل على هذا الأساس.
وأضافت «د.نادية»: رغم عدم وجود قواعد عسكرية صينية في الشرق الأوسط بعكس أمريكا، إلا أن واشنطن تسعى للترويج من خطورة تزايد النفوذ الأمني الصينى في دول المنطقة، تخوفا من تزايد الوجود الأمني الصينى لضرب المنطقة: فمثلًا تنظر الولايات المتحدة الأمريكية إلى مشاريع إنشاء وتشغيل الموانئ البحرية الصينية في موانئ (حيفا بإسرائيل، وميناء دوراليه في جيبوتي، وميناء خليفة في الإمارات العربية المتحدة المعروفة باسم مسار «عقد اللؤلؤ»).
على أنها تشكل تهديدًا للقواعد الأمريكية وللوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، الذي تحذر به واشنطن من أن وجودها عسكريًا من خلال قواعدها المنتشرة هو لخدمة دول الخليج والمنطقة والدفاع عن العمق الإستراتيجي للمضائق والممرات المائية مثل (مضيق هرمز وباب المندب) لتسهيل مرور وتدفقات النفط وحركة التجارة العالمية في مواجهة أعدائها من حلفاء الصين كإيران مثلًا.
وتابعت: نتيجة التخوف الأمريكى من الانضمام إلى «مبادرة الحزام والطريق» الصينية والترويج الأمريكى المغلوط بأنه يسعى لهيمنة الصين وفخ الديون لدى كافة دول المنطقة، وخشية واشنطن من امتلاك وبناء الصين لتكتلات اقتصادية أخرى عملاقة غير المؤسسات الدولية التي تقودها الولايات المتحدة في العالم.
باتت واشنطن تشن باستمرار حرب اقتصادية وتجارية ضد مصالح الصين في الشرق الأوسط، في حين تدافع الصين عن نفسها معتبرة أن (مبادرة الحزام والطريق والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية) ما هي إلا (مؤسسات تكميلية للمؤسسات الاقتصادية الدولية) الحالية، وليست بديلًا عنها.
وأكملت: في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى نظام «الدفاع الجماعي وسياسات التحالف» في الشرق الأوسط، تلتزم الصين بمبادئ «الأمن الجماعي» و«تصفير العداوات» بمعنى حل جميع النزاعات بالطرق السلمية في المنطقة، وفقا لما أكده الرئيس الصيني عدة مرات، حيث قال «الصين لا تسعى إلى عمل وكلاء ولا بناء مجال نفوذ ولا ملء فراغات السلطة في منطقة الشرق الأوسط، بعكس الحال مع واشنطن وتقسيمها المنطقة لوكلاء أو تابعين لها أو أعداء يميلون لدفة الصين».
ونفس الحال ينطبق بعد انتشار فيروس كورونا والترويج الأمريكى بتعمد الصين نشر الوباء في العالم، وفى الوقت الذي ساعدت فيه الصين كافة دول المنطقة ومصر ودول الخليج الأقرب لواشنطن وإيران أيضًا بغض النظر عن درجة القرب أو البعد عن الولايات المتحدة الأمريكية، نجد التحذير الأمريكى من إطلاق مبادرة «طريق الحرير الصحية» الصينية التي اقترحتها الصين وفعلتها منذ بدء تفشى الجائحة عالميًا، مع إضفاء واشنطن الطابع السياسي على البحوث الطبية الصينية المتعلقة بإنتاج اللقاح أو المصل.
في حين نفت حكومة بكين كل تلك الاتهامات في كافة المحافل والخطابات الدولية مؤكدين أن تلك البحوث العلمية والطبية الصينية ستستفاد منها جميع البشرية، بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها حول العالم على عكس ما تروج له واشنطن من نظرية التخويف أو التحذير الدائم من الصين.
نقلًا عن العدد الورقي...
تضارب المصالح
ولكن مع مرور الوقت، بدأ تضارب المصالح والصراع حولها يشتعل، وأطلقت كل دولة حملات تستهدف وقف تمدد منافسيها، باستغلال بعض أدوات الضغط التي تمكنت من خلقها خلال السنوات الأخيرة في مناطق وجودها.
«ينتهجون إستراتيجية تأجيج المشاعر لمناهضة المصالح الفرنسية في افريقيا».. اتهام أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ضد النظام الروسي وحليفه التركى، وذلك على خلفية تصاعد وتيرة الهجوم على بلاده، في أعقاب أزمة الرسوم المسيئة التي أثارت الجدل مؤخرًا، والتي اعتبر «ماكرون» أنها حملة ممنهجة ضده، عن طريق -ما وصفه- بـ«التحريف المتعمد» لتصريحاته عن مساندة حرية الرأي والتعبير، لإظهارها وكأنها دعم للإساءة إلى الدين الإسلامي.
فرنسا
مؤكدًا أن من يفبرك التصريحات والفيديوهات المعادية لفرنسا «مرتشون» من روسيا وتركيا، مع اللعب على توجيه النظر إلى فرنسا كمستعمر، واستحضار أحداث تاريخية تشوه الصورة الحالية لباريس، بحسب وصفه. فرنسا.. ترتبط بالعديد من المصالح المتشابكة والمتجذرة في افريقيا منذ زمن، ولديها جالية تقارب ربع مليون نسمة يعملون في افريقيا.
هذا إلى جانب أنها تعتبر أكبر مانح للمعونات الاقتصادية في افريقيا، ولديها قدر كبير من الاستثمارات داخل القارة، والتي بُنيت بالأساس على الروابط المتنوعة معها سواء كانت اللُّغوية أو الثقافية «الفرانكفونية».
كما أن فرنسا تعتبر المستورد الأكبر للمواد الخام، وفي نفس الوقت المصدر الأضخم للسلع التي تُصنع في الدول الفرانكفونية بافريقيا في نحو 30 دولة، ومن أبرز الدول التي تحرص فرنسا على الحفاظ على مصالحها فيها النيجر، رابع أكبر مصدر لليورانيوم، باعتبار أن الأولى تولد 75% من طاقتها الكهربية من الطاقة النووية، وتعتمد على وارداتها من اليورانيوم بنسبة 25% من الثانية لذلك تحتكر فرنسا إنتاج مناجم اليورانيوم النيجرية منذ أكثر من خمسة عقود.
وفى افريقيا الوسطى تدخلت في المناطق التي يوجد بها مناجم الماس لحمايتها وقت الحرب، وكذلك تدخلها في ليبيا وعقود النفط والمكاسب التي حققتها بعد ذلك التدخل. ولعل ما سبق وضع المصالح الفرنسية في تداخل مع المطامع التركية في افريقيا، لا سيما بعدما عمدت «أنقرة» خلال السنوات الأخيرة ضمن سياساتها التوسعية، على تعزيز تواجدها في الدول النفطية، وعلى رأسها ليبيا.
والتي ظلت تتوغل فيها عن طريق علاقاتها الوطيدة مع جماعات الإسلام السياسي، وإبرام اتفاقات مشبوهة كاتفاق ترسيم الحدود البحرية، والتي ظلت تخطط له من أجل توفير الغطاء القانوني المزعوم لعمليات التنقيب غير الشرعية عن الغاز في المتوسط، إضافة إلى نظرتها إلى عقود إعادة الإعمار التي تنتظر أن تجني المليارات من ورائها.
المطامع التركية الروسية
«المطامع التركية» تزامنت معها خطة روسية حاولت «موسكو» من خلالها تعزيز استثماراتها في افريقيا، وسعت لتثبيت أقدامها داخل القارة السمراء، وظهر ذلك في دول مثل جمهورية أفريقيا الوسطى، التي تتمتع بموقع إستراتيجي وثروات هائلة، والمشاركة الهائلة في دعم بناء محطة للطاقة النووية في جنوب افريقيا، وعقد اتفاقات تجارية بمبالغ هائلة بين الطرفين، إضافة إلى نظرتها هي الأخرى على الأرباح الضخمة التي قد تتحقق من خلال مشاركة كبرى شركاتها في عمليات إعادة الأعمار في دول مثل ليبيا، الأمر الذي جعل من روسيا منافسًا شرسا لفرنسا في افريقيا.
الصين وأمريكا
تتشابك أيضَا من جهة أخرى، مصالح الصين وأمريكا في افريقيا، والتي أصبحت ساحة أخرى للحرب الباردة بين البلدين، ونجد أن الصين استثمرت مليارات في تدريب العمالة وتبادل برامج الطلبة بافريقيا، وعملت وفق إستراتيجية شاملة في القارة السمراء، باستخدام إمكاناتها الاقتصادية والتجارية الهائلة واستثماراتها الضخمة في القارة، خاصة في مجالات البنية التحتية والطاقة، وحققت تفوق نسبي على الولايات المتحدة، وأصبح نهج الصين تجاه افريقيا تحديا رئيسيا لـ«المصالح الأمريكية»، لأن التمويل الصيني يتدفق إلى أفريقيا دون قيود.
الأمر الذي جعل بكين بديلًا سهلًا عن «لمساعدة الإنمائية المشروطة» من الغرب والمؤسسات المالية متعددة الأطراف.
وفى هذا السياق قال الدكتور أشرف كمال، مدير مركز الدراسات المصرية الروسية : بالنسبة للاتهامات ربما يصدق كلام الرئيس الفرنسي حول التدخلات التركية ومحاولة «أردوغان» تأجيج الصراع في مناطق مختلفة من العالم مثل لبنان، سوريا إقليم ناجورني كاراباخ، الساحل والصحراء، مالي وليبيا، وكل هذه الممارسات التركية تؤجج مشاعر الكراهية ضد أوروبا بالكامل، وخاصة ضد الوجود الفرنسي، فنحن نعلم أن لفرنسا وجودا في مالي ولها أيضا تحرك سياسي بشأن الأزمة الليبية، والأمر ذاته بالنسبة للأزمة السورية.
حرب التصريحات
وتابع: حرب التصريحات المتبادلة بين «ماكرون» و«أردوغان» متوقعة، فالممارسات التركية تأتي ضد المصالح الفرنسية التي تسير في اتجاه معاكس لها سواء في ليبيا وسوريا ولبنان ومنطقة الساحل والصحراء، وحتى المستعمرات الفرنسية القديمة في القارة السمراء، وتركيا تعمل على تأجيج الصراع ضد فرنسا والاتحاد الأوروبي، بحثا عن شماعة لتصدير مشاكلها الداخلية، مستغلة في ذلك الإرث الاستعماري المسيء لفرنسا في القارة السمراء.
أما فيما يتعلق بالتحركات والإستراتيجيات الروسية، فقال «د.أشرف»: الوجود الروسي في افريقيا لا يمكنه بشكل أو بآخر أن يؤثر على الوجود الفرنسي الممتد لعقود طويلة في القارة السمراء وفي الغرب الأفريقي بصفة خاصة، فالسياسة الروسية بطبيعتها لا تميل إلى مثل هذه المشاعر تجاه الدول الأخرى، فتلك السياسة حسب المعلن والتصريحات والممارسات التي نراها على الأرض تقوم على أساس من التعاون المشترك، في إطار ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
ولا توجد أي وسائل اتصال بين روسيا والجماعات الإرهابية والمتطرفة للتشجيع على الفكر المتطرف كما يزعم ماكرون، مشيرا إلى أن روسيا في قوانينها تعتمد على تجريم الفكر المتطرف ولديها قائمة بتلك الجماعات وعلي رأسها جماعة الإخوان الإرهابية التي تدعمها تركيا.
مدير مركز الدراسات المصرية الروسية، أشار إلى أن «تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة تهدف إلى محاولة تصدير مشكلاته وخاصة الشمال الأفريقي والبحث عن سبب لحفظ ماء الوجه أمام الداخل الفرنسي».
عداء تركي لفرنسا
في السياق ذاته، قال محمد ربيع الديهي، الباحث في الشأن التركي: رأس النظام التركي يكن عداء شديدا لفرنسا التي ساهمت بصورة أو بأخري في وقف المخططات التركي في سوريا وليبيا، إضافة إلى الطموح التركي في غاز شرق المتوسط، فـ«باريس» تبنت موقف معارض لـ«أنقرة» في تلك السياسات التدخلية ولم تخف هذا التوجه على الصعيد الدولي، بل على العكس تمامًا عملت على حث المجتمع الدولي لمواجهة الطموح التركي الذي يقوم على إحياء إرث الخلافة العثمانية من خلال دعم الفوضى والإرهاب.
وهو الأمر الذي أدي إلى فشل الطموح التركي في المنطقة العربية، لذلك عملت تركيا على تبني إستراتيجية أكثر عداء لفرنسا في أماكن تواجد النفوذ الفرنسي في افريقيا تحديدًا، بهدف إفشال مساعي الأخيرة لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، فضلًا عن أن الموقف الفرنسي الذي تبنته داخل الاتحاد الأوروبي والذي كشف تركيا أمام دول الاتحاد الأوروبي وخلق رأي عام أوروبي معارض للسياسات التركية، ليس هذا فحسب، لكن بدأت تظهر مطالبات بفرض عقوبات على تركيا من الاتحاد الأوروبي.
وكشف «الديهي»أن تركيا تستخدم مجموعة من الأدوات داخل القارة الأفريقية لتحقيق طموحاتها، وفي مقدمة هذه الأدوات المعونات والمساعدات التي تقدمها للشعوب الأفريقية بحجة مساعدة الدول الأفريقية في القضاء على الفقر والفساد، في حين تستخدم تلك المساعدات من أجل زيادة فقر الشعوب الأفريقية وزيادة معدلات الفساد، هذا إلى جانب استخدام أنقرة أداة التعليم والمنح الدراسية بهدف كسب ود الشعب الأفريقي، فضلا عن فرض اللغة التركية داخل المدارس والجامعات التي تبنيها تركيا في افريقيا في محاولة للغزو الثقافي، إضافة إلى بناء مدارس عسكرية أو اتفاقيات تعاون عسكري بين الدول الأفريقية.
ناهيك عن الدعم المستمر للإرهاب في تلك الدول وتغذية التفرق الطائفية والعنصرية في افريقيا، وتابع: إستراتيجية تركيا تهدف إلى إحياء الإرث العثماني والاستيلاء على ثروات الشعوب الأفريقية، لا سيما وأن الدول الأفريقية هي دول غنية بالثروات المتنوعة التي لم تكتشف حتى الآن، وتركيا تسعي لتحقيق هذا الأمر من خلال نشر الفوضى والعنف والإرهاب وتهريب تلك الثروات إلى تركيا، في حين تنشر فرنسا بنشر قواتها المسلحة لمواجهة الإرهاب والأفكار الإرهابية في الدول الأفريقية.
ومن هنا تختلف المصالح بين البلدين، فكل عاصمة تسعى نحو السيطرة على ثروات الشعوب الأفريقية، لكن إحداها يستخدم الإرهاب لسرقة هذه الثروات وهي تركيا، والأخرى تستخدم ذريعة محاربة الإرهاب في افريقيا بهدف السيطرة على الثروات أو أن تكون شريكا في استخراجها.
شرق المتوسط
أما فيما يتعلق بصراع النفوذ بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية في منطقة شرق المتوسط، فقالت الدكتورة نادية حلمي، أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف، الخبيرة في الشئون السياسية الصينية والآسيوية: على الصعيد الأمني نجد تضاربا في المصالح بين الصين والولايات المتحدة، حيث تميل واشنطن في الفترة الأخيرة لتكوين شبكة تحالفات ضد الصين، من خلال تقسيم واشنطن لدول المنطقة ما بين حلفاء لها أو أعداء.
وبالتالي تسعى واشنطن لبناء تحالف ضد ما تسميهم بحلفاء الصين وعلى رأسهم إيران، حيث يدافع الرئيس الصيني شي جين بينج عن مبادئ (التعددية وتقاسم المنافع بين الجميع) في إطار شعاره الدولى المعروف بـ«المصير المشترك للبشرية»، والدعوة لعالم يتشارك فيه الجميع المنافع اقتصاديًا، مع الدعوة الصينية لبناء شراكات مع جميع الأطراف في الشرق الأوسط بغض النظر عن درجة قربهم أو بعدهم عن واشنطن، بما في ذلك جميع حلفاء الولايات المتحدة بالإضافة إلى إيران، وهو ما يتناقض مع جوهر العقيدة الأمنية الأمريكية التي تسعى للتقسيم ما بين حليف لها وعدو وتتعامل على هذا الأساس.
وأضافت «د.نادية»: رغم عدم وجود قواعد عسكرية صينية في الشرق الأوسط بعكس أمريكا، إلا أن واشنطن تسعى للترويج من خطورة تزايد النفوذ الأمني الصينى في دول المنطقة، تخوفا من تزايد الوجود الأمني الصينى لضرب المنطقة: فمثلًا تنظر الولايات المتحدة الأمريكية إلى مشاريع إنشاء وتشغيل الموانئ البحرية الصينية في موانئ (حيفا بإسرائيل، وميناء دوراليه في جيبوتي، وميناء خليفة في الإمارات العربية المتحدة المعروفة باسم مسار «عقد اللؤلؤ»).
على أنها تشكل تهديدًا للقواعد الأمريكية وللوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، الذي تحذر به واشنطن من أن وجودها عسكريًا من خلال قواعدها المنتشرة هو لخدمة دول الخليج والمنطقة والدفاع عن العمق الإستراتيجي للمضائق والممرات المائية مثل (مضيق هرمز وباب المندب) لتسهيل مرور وتدفقات النفط وحركة التجارة العالمية في مواجهة أعدائها من حلفاء الصين كإيران مثلًا.
وتابعت: نتيجة التخوف الأمريكى من الانضمام إلى «مبادرة الحزام والطريق» الصينية والترويج الأمريكى المغلوط بأنه يسعى لهيمنة الصين وفخ الديون لدى كافة دول المنطقة، وخشية واشنطن من امتلاك وبناء الصين لتكتلات اقتصادية أخرى عملاقة غير المؤسسات الدولية التي تقودها الولايات المتحدة في العالم.
باتت واشنطن تشن باستمرار حرب اقتصادية وتجارية ضد مصالح الصين في الشرق الأوسط، في حين تدافع الصين عن نفسها معتبرة أن (مبادرة الحزام والطريق والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية) ما هي إلا (مؤسسات تكميلية للمؤسسات الاقتصادية الدولية) الحالية، وليست بديلًا عنها.
وأكملت: في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى نظام «الدفاع الجماعي وسياسات التحالف» في الشرق الأوسط، تلتزم الصين بمبادئ «الأمن الجماعي» و«تصفير العداوات» بمعنى حل جميع النزاعات بالطرق السلمية في المنطقة، وفقا لما أكده الرئيس الصيني عدة مرات، حيث قال «الصين لا تسعى إلى عمل وكلاء ولا بناء مجال نفوذ ولا ملء فراغات السلطة في منطقة الشرق الأوسط، بعكس الحال مع واشنطن وتقسيمها المنطقة لوكلاء أو تابعين لها أو أعداء يميلون لدفة الصين».
ونفس الحال ينطبق بعد انتشار فيروس كورونا والترويج الأمريكى بتعمد الصين نشر الوباء في العالم، وفى الوقت الذي ساعدت فيه الصين كافة دول المنطقة ومصر ودول الخليج الأقرب لواشنطن وإيران أيضًا بغض النظر عن درجة القرب أو البعد عن الولايات المتحدة الأمريكية، نجد التحذير الأمريكى من إطلاق مبادرة «طريق الحرير الصحية» الصينية التي اقترحتها الصين وفعلتها منذ بدء تفشى الجائحة عالميًا، مع إضفاء واشنطن الطابع السياسي على البحوث الطبية الصينية المتعلقة بإنتاج اللقاح أو المصل.
في حين نفت حكومة بكين كل تلك الاتهامات في كافة المحافل والخطابات الدولية مؤكدين أن تلك البحوث العلمية والطبية الصينية ستستفاد منها جميع البشرية، بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها حول العالم على عكس ما تروج له واشنطن من نظرية التخويف أو التحذير الدائم من الصين.
نقلًا عن العدد الورقي...