رئيس التحرير
عصام كامل

يوميات «الأطفال الأحداث» داخل المؤسسة العقابية.. من «عنبر الاستقبال» و«الورش» إلى «بوابة الخروج»

يوميات «الأطفال
يوميات «الأطفال الأحداث» داخل المؤسسة العقابية
«المؤسسة العقابية للأحداث بالمرج».. فور أن تصل إلى مسامع أي شخص الكلمات الأربع هذه، فإن العقل سرعان ما يترجمه فى صورة السجن، والمكان الموحش، والأسوار العالية، وما إلى ذلك من المشاهد التى تحتفظ بها الذاكرة عن السجون، غير أن ما يحدث على أرض الواقع داخل هذا المكان، يكشف زيف هذه الصورة، ويوضح حقيقة ما يحدث خلف أسوارها. 


محرر «فيتو» أجرى جولة داخل المؤسسة العقابية للأحداث بالمرج، للتعرف على التفاصيل الخاصة للطفل الحدث منذ إيداعه بالمؤسسة، وحتى الخروج منها، ومعرفة تفاصيل أغرب الجرائم التى كانت سبب فى إيداع الطفل بها لتقضيه عقوبته القانونية. 

البداية

بداية.. التقى محرر «فيتو» الدكتورة فاطمة عبد الباسط، المدير الاجتماعى للمؤسسة العقابية لرعاية الأحداث بالمرج، التى تعمل بالمؤسسة منذ ٧ سنوات، والتى قالت: المؤسسة ليست كما يطلق عليها البعض السجن أو الإصلاحية، ومن جانبى أسعى جاهدة لتغير اسم المؤسسة العقابية للأحداث لدور رعاية اجتماعية وتأهيل للطفل.

وعند وصول الطفل إلى المؤسسة فإن البعض يتصور أنه يجرى استقباله بالضرب والإهانة مثلما تصور الأفلام السينمائية، لكن هذا لا يحدث، حيث يتم استقبال الأطفال وكأنهم فى منازلهم لدرجة أنهم ينادوننى بـ«ماما فاطمة»، وفى أول لقاء مع الطفل لا يمكن سؤاله عن جريمته أو «جيت هنا ليه» خاصة إذا كان مرتكبًا جرائم مخلة بالشرف، والاكتفاء بطمأنته والتعرف على تفاصيل خاصة به. 

الاستقبال

وحول مراحل استقبال الطفل الحدث داخل المؤسسة، أوضحت «د. فاطمة» أن «أولى المراحل مرحلة الاستقبال تجرى داخل عنبر خاص ويظل به الطفل ١٥ يوما، وفيه يتسلم الطفل ملابسه ويتعرف على المؤسسة ككل وعلى الأخصائى الاجتماعى المتابع لحالته، ويتم توزيع ٤ أطقم للطفل على مدار السنة ألونها (أصفر، كحلى، وأحمر) وبعد ١٥ يوما يتم نقله لعنبر إقامته الذى يقضى به بقية مدة عقوبته القانونية».

وكشفت «د. فاطمة» أن المؤسسة تضم داخلها ورشًا فنية عديدة من نجارة وتبريد وتكيف وكهرباء وغيرها، ويتم إلحاق الطفل الحدث بها طبقًا لرغبته الشخصية، وإذا كان الطفل طالبا بالمرحلة الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية يتم توفير كل الكتب الدراسية التى يحتاجها بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم.

إلى جانب توفير مدرسين للمواد، وعند الامتحانات فى جميع المراحل التعليمية يتم عمل لجنة امتحان داخل المؤسسة للطفل الحدث لتأدية امتحاناته «عندنا أطفال جابوا ٩٧٪ بالثانوية العامة داخل المؤسسة متهمين فى جرايم قتل وهتك عرض»، وهناك مؤسسات تتعاون مع المؤسسة العقابية مثل الأزهر وصندوق مكافحة الإدمان، ووزارة الشباب والرياضة، ومكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة. 

العنابر

وتابعت: يوجد داخل المؤسسة ٧ عنابر تضم ما بين 25 إلى 35 طفلا حدثا فى العنبر الواحد، وبعد مرحلة الاستقبال يتم تصنيف الأطفال على حسب الجرائم، مثال«إذا تواجد ٣ أطفال ارتكبوا جناية اتجار فى المخدرات، يستحيل أضيف طفل حدث جديد ارتكب نفس الجريمة خوفًا من التكتلات داخل العنبر وإفساد الأطفال بعضها البعض»، ويتم عمل لجنة تصنيف للطفل بعد انتهائه من مرحلة الاستقبال بيحضرها مدير الرعاية وأخصائى الاجتماعى والأخصائى النفسى والطبيب ومدير الورش المهنية وضابط المباحث الجنائية كل منهم يكتب تقريرًا به ملاحظاته من جهة تخصصه وعمله بالطفل.

وبناءً على هذه التقارير يودع الطفل فى العنبر المناسب له، ويكون هناك تقرير متابعة بشكل يومى لكل طفل. 

وأكملت: هناك عنبر (طلائع د) يطلق عليه فى المؤسسة «عنبر الغلابة» يضم الأطفال الأصغر سنًا والأقل عنفًا ويتم إيدعهم به ومنهم أطفال لديهم ظروف صحية وعقلية خاصة، وذلك حتى لا يتم التأثير عليهم من الأطفال الأكثر عنفا داخل العنابر الأخرى. 

أغرب الجرائم

ومن أغرب الجرائم التى تركت بصمه فى عقل «د. فاطمة»، قالت: كانت جريمة قتل الطالب (سامى) ١٦ عاما بالصف الأول الثانوى لمدرسته أثناء الدرس الخصوصى بمنزلها، طعنها بسكين فى رقبتها أكثر من طعنه، وقيل إن سبب جريمته اعتياده على لعب الألعاب العنيفة.

لكن بعد عدة استشارات نفسية اتضح أنه مريض عقلى بمرض الفصام يرى هلاوس وخيالات، وعند الحديث مع الطفل قال إنه بعد جريمته ذهب لوالده وأبلغه أنه طعن مدرسته حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، وتم الحكم عليه بالسجن ٨ سنوات مراعاة لظروفه الصحية.

وأضافت: هناك حوادث لا تنسى، منها طفل يدعى «محمود» وهو طالب أزهرى «ضرير» حكم عليه بالسجن ١٠ سنوات فى قضية هتك عرض زميله بالدراسة، وأصبت بحالة ذهول من شدة أدبه وحسن أخلاقة وحفظه للقرآن وعند مناقشته عن السبب وراء ارتكاب الحادث قال إن السبب تنمر أصدقائه عليه «بيقولولى يا أعمى.. قلتلهم طب أنا أعمى وهوريكم هعمل إيه»، ومحمود كان متفوقا بالثانوية وحصل على 87٪ داخل المؤسسة. 

وأكملت: من الجرائم الشاذة، جاء لنا طفل يدعى حسن ١٥ سنة فى قضية اغتصاب خالته المعاقه ذهنيا، وعند الحديث معه قال « ساعة شيطان كانت نايمة وهدومها مرفوعة.. وكنت بشوف أفلام جنسية كتير وما حستش بنفسي»، بعد تحليل المخدرات له اكتشفنا عدم تعاطيه المواد المخدرة وأرجعنا سبب الجريمة لـ«السوشيال ميديا» والسينما والإنترنت الذى يتسبب فى إثاره غرائز الشباب فى سن خطرة.

وهناك جريمة أخرى بطلها طفل يدعى «محروس» من الصعيد جاء فى قضية قتل ثأرية حكم عليه بالمشدد ١٥ عامًا، وبمناقشته علمنا أنه قام بفداء والده من حكم الإعدام، وسلم نفسه والغريب فى قضيته أنه فخور بنفسه، «شايف نفسه ابن أبوه.. لأنه ضحى بمستقبله وأنقذ والده.. حيث قال لنا أنا عندى ٥ إخوات أما أبويا يتعدم مين هيصرف على إخواتي». 

وتابعت «د. فاطمة» سردها لأغرب القضايا، وقالت: من أغرب الجرائم التى استقبلتها المؤسسة قصة الطفل «مؤمن» الذى جاء فى قضية سرقة جثث وبيعها وحكم عليه بالسجن ٧ سنوات، وكان شرط سرقة الجثث تكون «طازة»، وهذا الطفل كان عنيفًا جدا لدرجة أنه كان يصيب نفسه يوميًا.

فقررت إبعاده عن العنبر والعمل على رفع معنوياته من خلال العمل بمكتبى كسكرتير، ومن بعدها أصبح أقل عدوانا، وعند مناقشته علمت منه أنه نشأ فى دار أيتام وبعد ٤ سنوات فوجئنا بسيدة تدعى أنها والدته وأخذته من المؤسسة، بعدها بفترة وجيزة علمنا أن السيدة أضاعت الطفل وأصبح من أبناء الشوارع حتى أصبح صديقا لعصابات سرقة الجماجم والجثث والأعضاء. 

واستطردت «د. فاطمة»: هناك أيضا قضية بطلها طفل لم يتجاوز عمره 16 عامًا، اشترك مع شابين ٢٠ سنة فى هتك عرض طفلة عمرها ٥ سنوات، وخنقوها وألقوها على سلم العقار وعند مناقشته عن سبب فعلته قال: « كنا بنلعب معاها وكنا شاربين بانجو.. ما حسناش بنعمل إيه غير بنجرجرها لشقة واحد جارنا شارك معانا فى هتك عرضها، وقررنا نقتلها ونرميها تحت بير السلم». 

وكشفت «د. فاطمة» أن المؤسسة استقبلت طفلا يدعى «مؤمن» جاء المؤسسة فى قضية اتجار مخدرات وسرقة، بعد فترة اكتشفوا أنه مريض قلب، وأن حالته الصحية صعبة، فما كان منا إلا أن تواصلنا مع وزارة التضامن الاجتماعى التى تواصلت بدورها مع وزارة الصحة وتم إجراء عملية قلب مفتوح له. 

كما أشارت إلى أن هناك إدارة داخل المؤسسة العقابية تدعى بإدارة التسجيل الجنائى تختص بدراسة الملف الجنائى لأطفال الأحداث، وهو ملف مختلف تماما عن الملف الاجتماعى الذى يتم داخل عنابر المؤسسة، مضيفة: «بعيدًا عن الجريمة التى ارتكبها الطفل، فإن مسئولية الأخصائى الاجتماعى فى المؤسسة العقابية طمأنته وزرعت الثقة بداخله، ومن ثم تشخيص حالته بشكل جيد، مع الأخذ فى الاعتبار أن أي طفل جاء للأحداث يكون متأكدًا أن العالم كله ضده، خاصة مرتكبى جرائم هتك العرض. 

التواصل الأسري

وحول كيفية تواصل الأطفال الأحداث مع أسرهم وأصدقائهم، قالت «د. فاطمة»: هناك هاتف خاص للمؤسسة مسموح بدخوله يوم كل أسبوع داخل كل عنبر، وهناك حالات أطفال كثيرة ليس لديهم شخص أو صديق يهاتفه، وأذكر هنا أنه كانت هناك حالة طفل جاء المؤسسة فى حيازة سلاح، والدته متوفاة ولديه شقيقان مسجونان على ذمة قضايا مخدرات وإحراز أسلحة، تحدث مع والده عبر الهاتف ففوجئ بوالده يعنفه ويهاجمه، وقال له: «عرتنى أنت وأخواتك مليش عيال ومش عايز أعرفكم» وبعد هذه المكالمة أصيب باكتئاب يجعله يرغب فى الانتحار أو إصابة نفسه. 

وبسؤالها عن طعام الأطفال داخل المؤسسة العقابية قالت: «هناك شيفات ويقدم للأطفال بشكل أسبوعى ٣ أيام لحوم و٣ أيام دواجن ويوم فقط لتناول الأسماك أو بحسب رغبه الأطفال، وجميع أنواع الفاكهة بشكل يومى ويمنع تكرار نوع واحد ليومين متتاليين». 

ومن جانبه قال فيليب بباوى، متخصص فى عمل الفحوصات الظاهرية: أغلب الإصابات تكون فى وجه أطفال بالقرب من الوريد بأعلى الرقبة وهى علامه قاتلة خاصة عند أبناء الشوارع، وبعض الإصابات يكون غرضها الإذلال وهى إصابات بآلة حادة فى الجهاز التناسلى للطفل، ويصاب بها الأطفال المتهمون فى جرائم هتك العرض والشذوذ الجنسى. 

الرعاية اللاحقة

وقال سيد حجاج، مدير إدارة الرعاية اللاحقة، وهى وحدة فريدة من نوعها فى جمهورية مصر العربية أسست عام ٢٠١٦، وهدفها الاهتمام بالطفل الحدث قبل الإفراج عنه بثلاث أشهر لتعديل سلوكه بما يتناسب مع مواجهة المجتمع: طبيعة عمل الوحدة تتمثل فى توفير عمل للطفل بعد خروجه مثل توفير مشروع حياكة أو نجاره والدعم المادى سواء للطفل أو أسرته لمساعدتهم فى تربيه الطفل بعد خروجه.

وكشف «حجاج» أنه «قبل خروج الطفل، تجرى المؤسسة عمل زيارة لأسرته لتأهيل أفرادها نفسيا لاستقباله وحسن معاملته، وفى الوقت ذاته التعرف على ظروف الأسرة، ونسعى لتحسين مسكن الطفل، وتم تأسيس٣١ مشروعا لأطفال أحداث، وهذه المشروعات كانت جاهزة بعد خروجهم مباشرة». 

وضرب «حجاج» مثالا لطفل تم تأهيله فى المؤسسة، قائلا: «أسسنا له مشروع تكييف وتبريد، ولد كان بريئا جدا، الولد اتعلم بسرعة، وخلال الملاحظة لم يكن هناك ما يدل على أنه ارتكب جريمة هتك عرض طفل، وقد حكم عليه بالسجن ٣ سنوات، وعندما وصل المؤسسة لم يكن تجاوز الـ ١٥ وخرج ١٨ سنة، ولا يزال بيننا تواصل حتى الآن».

نقلًا عن العدد الورقي...،
الجريدة الرسمية