«أنا مش مجنون.. أنا زيك إنسان».. رسالة غنائية من نزلاء مستشفى حلوان للصحة النفسية | فيديو وصور
ربما تخشى غالبية الناس الاقتراب من المكان، حتى ولو بدافع الفضول، متأثرين بالصورة الذهنية التي صدرتها لهم بعض الأعمال الدرامية والأفلام السينمائية عن طبيعة المريض النفسي وكيف تكون حالته.
غير أن التجربة ستثبت لصاحبها أن هذه الصورة لا تتعدى كونها «خيال مؤلف»، لهذا إن كنت تعتقد أن الصراخ والعويل لا ينقطعان عن أى مكان يتواجدون فيه، فحتمًا أن مخطئ فإذا نظرت إلى أعينهم جميعًا تجد السلام يرقد هناك والرغبة في انتزاع الهدوء قدر الإمكان.
مرضى تتراوح أعمارهم بين الثلاثين وحتى السبعين، يصطفون على الكراسي المعدنية داخل السُرادق يتابعون بعين شاردة حينًا ويقظة حين آخر. المكان.. مستشفى الأمراض النفسية بحلوان.
الهدوء يسيطر على الأجواء كافة.. حتى أن أصوات الأغاني الوطنية التي تتعالى في جنباتها تظهر وكأنها دخيلة على طبيعة قطعة الأرض هذه التي تقع في أقصى أطراف القاهرة.
سرادق وضجيج وأصوات متداخلة تبدو غير مألوفة على الرجل السبعيني الذي اتخذ أحد الكراسي المعدنية في طرف السرادق مأوى له منذ بداية الاحتفال وحتى نهايته ينظر بريبة في وجوه الحضور يعرفهم جيدًا.
لكنه ربما لم يعهدهم بتلك الصورة من قبل. المستشفي يستعد للاحتفال باليوم العالمي للصحة النفسية، على طريقتهم الخاصة يحاول المسئولون عن رعاية المرضى والذين ينتمي معظمهم لأعمار تفوق الستين عامًا، أن يجعلوه يومًا غير عادي:
«إحنا النهاردة قررنا نحتفل مع المرضى باليوم العالمي للصحة النفسية من خلال تنظيم مجموعة من الفاعليات هدفها إسعادهم وإدماجهم»، يتحدث عبدالله بيومي، مسئول التأهيل النفسي في المستشفى.
ما يدور داخل المربع الإسمنتي الذي تحيطه الخطوط البيضاء التي ارتسمت حوله ليبدو وكأنه ملعب كرة قدم يتوسط فناء المستشفى، وفي الخلفية يأتي صوت أحد المسئولين وهو يعلق على المباراة، معلنًا تعادل فريق «التأهيل النفسي» مع فريق «البراعم» الذي حضر لمنافسة المرضى الذين حرص «عبدالله» على تدريبهم مدة عام كامل لخوض هذه المباراة.
على اليسار تجلس الدكتورة نهلة نور الدين، مدير المستشفى، وإلى بجوارها المسئولة الإعلامية وعدد من موظفي المستشفى والأطباء وطاقم التمريض، وفي الجهة اليمنى يجلس المرضى، يتابعون المباراة التي لم تستمر سوى حوالي 15 دقيقة فقط.
وكانت افتتاحية فاعليات هذا اليوم. يقف المريض محمود في حراسة مرمى فريقه، يحدق في الجهات كافة ليتأكد من أنه لا أهداف ستُحرز في مرماهم، «محمود» من أفضل اللاعبين في الفريق الخاص بالمرضى.
«شارك معايا في مسرحية تم تأليفها لفريق مستشفى الأمراض النفسية بحلوان، ونجح في إنه يتقدم في تدريبات كرة القدم كمان»، يتحدث مسئول التأهيل النفسي عبدالله بيومي.
منذ حوالي عام، توقف النشاط الكروي، لكن «عبدالله» كان حريصًا على أن يُشرك ويُدمج المرضى في الأنشطة، رغم الجمود الذي نتج عن زحف جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19) إلى مصر وتسببها في إحداث الشلل في الأنشطة الحياتية كافة.
حتى داخل هذا المَشفى الذي يقبع وحيدًا في طرف مدينة حلوان، «أنا في المستشفى بدربهم على العزف والموسيقى والغناء والتمثيل بجانب لعب كرة القدم، كل هدفنا نثبت إنه الناس دي طبيعية وزينا كل الحكاية إنه بسبب هموم الدنيا بعضهم أصيب بالاكتئاب أو بالهوس أو انفصام الشخصية، لذلك حرصنا إننا نحضر فريق كرة قدم من الأطفال التابع لإحدى الأكاديميات لإدماجهم معهم».
تبدو المباراة محتدمة أكثر يندمج المرضى مع الصغار ويربتون على أكتافهم بين الحين والآخر، «الناس هنا بتلاقي بعض المرضى لو خرجوا بعد تعافيهم مبيقدروش يتعاملوا برة بيلاقوا نفسهم في أي نشاط يجمعهم، وفي جلستهم مع بعض»، يقولون دائمًا أن من يشعر بك فقط هو من عاش ظروفًا تتشابه وظروفك يجمعكم معاناة واحدة وألم واحد، هذه المقولة تجد لها صدى في هذا العالم الصغير، فها هو أحد المرضى يمازح زميله وينغمسان في نوبة ضحك شديدة بينما يتابعان معًا مباراة كرة القدم!.
بحلول الثانية ظهرًا انتهت المباراة بـ«تعادل الفريقين» وتُطلق صافرة النهاية، لكن الاحتفالات لم تنته بعد والضجيج الذي تحدثه مكبرات الصوت في ساحة المستشفى ما زال يعلن عن استمرار فاعليات اليوم.
الكل هناك يبحث عن مساحة آمنة يمكنه أن يمارس بها هوايته المفضلة، اثنان يقفان أمام طاولة خاصة بلعبة التنس، وآخران يكملان تمارين كرة القدم بعد انتهاء المباراة، في حين تقف مدير المستشفى مع بعض المرضى والعاملين يتراقصون فرحين ويتبادلون مشاعر المحبة، «مش بس النهاردة إحنا وسطهم وبنجمعهم إحنا دائمًا حريصين على ده وبنحاول نهيأ لهم أجواء تحقق التفاعل وتعزز روح المحبة بينهم، لأنه هما بيلاقوا نفسهم في الأجواء دي«، يتحدث «عبدالله» بينما يجلس حوله عدد من المرضى يتغنون بأغنية سبق وألفها لهم عبدالله ولقنهم إياها، يقول مطلعها:
«يا أخويا يا أخويا يا أخويا الإنسان.. بندهلك اسمعني يا أخويا الإنسان.. أنا مش مجنون أنا زيك إنسان».