سلامة موسى يكتب: كيف نكون عبقريين
فى مجلة "المجلة "عام 1939 كتب الصحفي سلامة موسى ـــ رحل عام 1958 ـــ مقالا عن العبقرية والعبقريين قال فيه:
قبل أن نشرح هذا الموضوع نحتاج إلى أن نشرح نقيضه وهو: كيف نكون غير عبقريين؟ والجواب سهل، بل في غاية السهولة.
وهو: أننا نكون غير عبقريين إذا كانت الظروف الاجتماعية تمنعنا بالقوانين أو بقوة وضعها الاجتماعي عن ذلك ؛ كأن تكون هذه القوانين تقاليد فقط .
إن تاريخ مصر وأوروبا، بل جميع الشعوب يدل على أنه وضعت قوانين لمنع التفكير البكر الأصيل، وسنت قوانين تنص على عقوبة المفكرين، فقد كان في فرنسا مثلا قبل الثورة قانون يعاقب كل من يجرؤ على مخالفة أرسطوطاليس، وكلنا يعرف أن قوانين الكنيسة كانت تطالب بمعاقبة كل من يخالف تقاليدها ونصوصها بفكرة جديدة تنقض هذه النصوص أو تزيد عليها أو تنقص منها.
وأسوأ ما في القوانين المانعة للتفكير أن يؤيدها المجتمع حتى تكون العامة هي الكثرة الغالبة في هذا المجتمع، بل أحيانًا يكون بحالة من التقاليد، وبلا حاجة إلى قوانين، هو الذي يمنع التفكير البكر الأصيل ، والذي يجب ألا ننساه أن العبقرية ليست هبة موروثة، وإنما هي كفاءة يطلبها المجتمع، بحيث إذا لم يطلبها لم توجد، وهذه هي الحال المؤسفة في بعض الشعوب العربية الآن.
وفي مصر منعتنا الحكومة من التفكير الاجتماعي البكر، أو ما يسميه بعضهم التفكير اليساري، فتخلفنا في التفطن إلى الأصول التي ينبع منها الاستعمار، وإلى العوامل التي يستند إليها، فضاعت منا عبقريات في الفهم الاجتماعي العام بسبب العقوبات ُ التي عوقب بها بعض المفكرين الذين جرأوا على التفكير.
ومن عجيب ما أقرأ من وقت إلى آخر كلمات لأحد المغفلين ينعي فيها على المرأة في كافة الدنيا عجزها عن الابتكار والتفكير الأصيل ، مع أن القليل من التأمل في حالها الاجتماعي يوقفنا على علة هذا العجز، إذ كانت المرأة إلى وقت قريب لا تمارس من الأعمال سوى تلك التي تتصل بالبيت، وهى أعمال لا تحتاج إلى ذكاء، ونحن بإصرارنا على منعها من الاختلاط بالمجتمع، إنما وضعنا بذلك قيودا على ذكائها .
إلا أنه فى السنوات الاخيرة بعثت فيها من الذكاء ما يساوي ذكاء الرجل، وما حدث في أوروبا وأمريكا سوف يحدث في مصر.
نعود فنقول مع الإحساس بالتكرار إن العبقريات، بل الذكاء، مثل اللغة التي هي أعظم وسائل الذكاء الاجتماعى وإنه إذا كان المجتمع بتقاليده لا يحتاج إلى العبقرية أو يعاقب على ظهورها، فإنها لن توجد إلا في أفراد شاذين ثائرين سرعان ما يفرون أو ينتحرون أو يعاقبون.
ورأينا بعض هذا في مصر مما عطل التفكير السياسي عدة سنين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ظهرت كوكبة من المفكرين والمبتكرين في العالم العربي هم: ابن رشد الفيلسوف الذي لا تزال فلسفته تناقش إلى الآن في أوروبا، وموسى بن ميمون الذي هاجر من الأندلس إلى القاهرة، والذى شرح طريقة التفكير ، وابن حزم الذي قال بضرورة الحب، وكان باعثا لإيجاد الحركة الرومانتيكية الأولى في أوروبا ، وابن النفيس الذي عرف الدورة الدموية قبل أن تعرف في أوروبا ، وابن خلدون أول مفكر اجتماعي في العالم كله.
هؤلاء خمسة من المفكرين المبتكرين الذي لم يسبقهم أحد إلى أسلوب تفكيرهم، والذين تجرأوا على نقض المألوف من الأفكار السابقة لهم، كلهم نقضوا شيئًا في التفكير القديم وأوجدوا تفكيرا جديدا، ولكننا لا نجد مفكرا عربيا واحدا بعدهم.
ولسبب واحد هو أن التفكير الحر المستقل أصبح جريمة، وصارت الشعوب العربية تؤمن بالغزالي، الذي كان يعد تعلم الجغرافية سبيلا ً إلى الكفر، بدلا من أن تؤمن بابن رشد أو ابن النفيس الذي نفى إلى مراكش.
ورأى ابن رشد مؤلفاته تحرق أمام عينيه، إلى أن مات، بل إن موسى بن ميمون تلميذه، كان يؤلف مؤلفاته العربية في القاهرة بالخط العبري حتى لا يقرأها العرب ويتهموه بالكفر.
سلامة موسى يكتب : الكتب والصحافة
بعد ذلك مات الفكر العربي، وازداد موتا بدخول الأتراك واحتلالهم الأقطار العربية، ً وأصبحت النهضات العربية تعتمد على الأئمة بدلا من الاعتماد على الفلاسفة.
أصبح التفكير محظورا بحكم الآراء ورضا المجتمع، ولذلك لم يظهر عبقري واحد في الشعوب العربية منذ ٦٠٠ سنة، وإلى الآن، أما كيف يكون المؤلف مبتكرا عبقريا؛ فالشرط الأول لذلك أن يحب الإنسانية، وأن تكون النظرة الشاملة ليس إلى وطنه وحده بل إلى العالم كله.
قبل أن نشرح هذا الموضوع نحتاج إلى أن نشرح نقيضه وهو: كيف نكون غير عبقريين؟ والجواب سهل، بل في غاية السهولة.
وهو: أننا نكون غير عبقريين إذا كانت الظروف الاجتماعية تمنعنا بالقوانين أو بقوة وضعها الاجتماعي عن ذلك ؛ كأن تكون هذه القوانين تقاليد فقط .
إن تاريخ مصر وأوروبا، بل جميع الشعوب يدل على أنه وضعت قوانين لمنع التفكير البكر الأصيل، وسنت قوانين تنص على عقوبة المفكرين، فقد كان في فرنسا مثلا قبل الثورة قانون يعاقب كل من يجرؤ على مخالفة أرسطوطاليس، وكلنا يعرف أن قوانين الكنيسة كانت تطالب بمعاقبة كل من يخالف تقاليدها ونصوصها بفكرة جديدة تنقض هذه النصوص أو تزيد عليها أو تنقص منها.
وأسوأ ما في القوانين المانعة للتفكير أن يؤيدها المجتمع حتى تكون العامة هي الكثرة الغالبة في هذا المجتمع، بل أحيانًا يكون بحالة من التقاليد، وبلا حاجة إلى قوانين، هو الذي يمنع التفكير البكر الأصيل ، والذي يجب ألا ننساه أن العبقرية ليست هبة موروثة، وإنما هي كفاءة يطلبها المجتمع، بحيث إذا لم يطلبها لم توجد، وهذه هي الحال المؤسفة في بعض الشعوب العربية الآن.
وفي مصر منعتنا الحكومة من التفكير الاجتماعي البكر، أو ما يسميه بعضهم التفكير اليساري، فتخلفنا في التفطن إلى الأصول التي ينبع منها الاستعمار، وإلى العوامل التي يستند إليها، فضاعت منا عبقريات في الفهم الاجتماعي العام بسبب العقوبات ُ التي عوقب بها بعض المفكرين الذين جرأوا على التفكير.
ومن عجيب ما أقرأ من وقت إلى آخر كلمات لأحد المغفلين ينعي فيها على المرأة في كافة الدنيا عجزها عن الابتكار والتفكير الأصيل ، مع أن القليل من التأمل في حالها الاجتماعي يوقفنا على علة هذا العجز، إذ كانت المرأة إلى وقت قريب لا تمارس من الأعمال سوى تلك التي تتصل بالبيت، وهى أعمال لا تحتاج إلى ذكاء، ونحن بإصرارنا على منعها من الاختلاط بالمجتمع، إنما وضعنا بذلك قيودا على ذكائها .
إلا أنه فى السنوات الاخيرة بعثت فيها من الذكاء ما يساوي ذكاء الرجل، وما حدث في أوروبا وأمريكا سوف يحدث في مصر.
نعود فنقول مع الإحساس بالتكرار إن العبقريات، بل الذكاء، مثل اللغة التي هي أعظم وسائل الذكاء الاجتماعى وإنه إذا كان المجتمع بتقاليده لا يحتاج إلى العبقرية أو يعاقب على ظهورها، فإنها لن توجد إلا في أفراد شاذين ثائرين سرعان ما يفرون أو ينتحرون أو يعاقبون.
ورأينا بعض هذا في مصر مما عطل التفكير السياسي عدة سنين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ظهرت كوكبة من المفكرين والمبتكرين في العالم العربي هم: ابن رشد الفيلسوف الذي لا تزال فلسفته تناقش إلى الآن في أوروبا، وموسى بن ميمون الذي هاجر من الأندلس إلى القاهرة، والذى شرح طريقة التفكير ، وابن حزم الذي قال بضرورة الحب، وكان باعثا لإيجاد الحركة الرومانتيكية الأولى في أوروبا ، وابن النفيس الذي عرف الدورة الدموية قبل أن تعرف في أوروبا ، وابن خلدون أول مفكر اجتماعي في العالم كله.
هؤلاء خمسة من المفكرين المبتكرين الذي لم يسبقهم أحد إلى أسلوب تفكيرهم، والذين تجرأوا على نقض المألوف من الأفكار السابقة لهم، كلهم نقضوا شيئًا في التفكير القديم وأوجدوا تفكيرا جديدا، ولكننا لا نجد مفكرا عربيا واحدا بعدهم.
ولسبب واحد هو أن التفكير الحر المستقل أصبح جريمة، وصارت الشعوب العربية تؤمن بالغزالي، الذي كان يعد تعلم الجغرافية سبيلا ً إلى الكفر، بدلا من أن تؤمن بابن رشد أو ابن النفيس الذي نفى إلى مراكش.
ورأى ابن رشد مؤلفاته تحرق أمام عينيه، إلى أن مات، بل إن موسى بن ميمون تلميذه، كان يؤلف مؤلفاته العربية في القاهرة بالخط العبري حتى لا يقرأها العرب ويتهموه بالكفر.
سلامة موسى يكتب : الكتب والصحافة
بعد ذلك مات الفكر العربي، وازداد موتا بدخول الأتراك واحتلالهم الأقطار العربية، ً وأصبحت النهضات العربية تعتمد على الأئمة بدلا من الاعتماد على الفلاسفة.
أصبح التفكير محظورا بحكم الآراء ورضا المجتمع، ولذلك لم يظهر عبقري واحد في الشعوب العربية منذ ٦٠٠ سنة، وإلى الآن، أما كيف يكون المؤلف مبتكرا عبقريا؛ فالشرط الأول لذلك أن يحب الإنسانية، وأن تكون النظرة الشاملة ليس إلى وطنه وحده بل إلى العالم كله.