حكايات من مصر.. الخديو عباس حلمي الثاني يوبخ الضباط البريطانيين
على مدار العصور والعهود المتعاقبة، حفل التاريخ المصري بالعديد من الأحداث والحكايات التي ظلت تروى جيلا بعد جيل، أو تلك التي لم يعرفها الكثيرون.
وفي محاولة منه لرسم خيوط ما مر به المصريون، وحال حكامه المتواليين منذ العصور الوسطى، وحتى حكم أسرة محمد علي باشا، سخَّر المؤرخ والكاتب الصحفي صلاح عيسى قلمه على مواقف وأحداث أغلبها غير معروف، تنير لقارئها دلالات عصرها، ودونها في كتابه "هوامش المقريزي.. حكايات من مصر".
وفي صورة ومضات سريعة، وأسلوب سهل يفهمه الدارسون وغير الدارسين، نجح الراحل صلاح عيسى، في تسليط الضوء على فترة هامة من عمر الأمة المصرية.
ويحكي صاحب "هوامش المقريزي" أحد المواقف الوطنية التي عرفت عن الخديو عباس حلمي الثاني، وإحدى محاولاته لتقليص سلطة الاحتلال البريطاني لمصر قدر استطاعته، والحد من نفوذ الضباط البريطانيين في الجيش المصري، فيقول:
في يناير 1894 حدثت أزمة ضارية بين اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في القاهرة والخديو عباس حلمي الثاني؛ بسبب ملاحظة أبداها الخديو على أسلوب تدريب الجيش المصري.
وكان الخديو قد انتهز فرصة سفر اللورد في إجازة إلى إنجلترا فأحدث انقلابا في السلطة العليا للجيش المصري، وذلك بتعيين وزير جديد للحربية هو ماهر باشا، واصطحبه في رحلة لتفقد وحدات الجيش المصري المعسكرة في أسوان وجنوبها، وتعمد الخديو أن يعلق على كل شيء يراه بشكل يضمن السخرية من جهل الضباط البريطانيين منددا بالنقص في كفاءتهم العسكرية.
وفي وادي حلفا، استعرض الخديو عباس حلمي الثاني وحدات الجيش بحضور قائده العام السردار "كتشنر"، وعلى حد ما كتب السردار نفسه في تقرير رفعه بعد ذلك إلى كرومر فإن الخديو "أبدى ملاحظات شائنة للقادة البريطانيين ومحقرة لهم، وبعد ذلك قال لي إن من رأيه أنه من العار أن يكون الجيش المصري في هذه الدرجة من عدم الكفاءة".
وغضب كتشنر ورفع استقالته من الجيش، وأثرت الاستقالة في الخديو الذي استدعاه وطلب منه سحبها، فقال السردار: "إذا كان الضباط البريطانيون يوبَّخون ويعنَّفون بهذه الصيغة العلنية، فإن مركزكم في البلاد يسوء، ويصبح من الصعب الحصول على ضباط أكفاء يقبلون الخدمة في الجيش المصري غيرهم".
وأيَّد اللورد كرومر تصرف سرداره المتعنت. وأضاف إليه أن تصرف الخديو يعيد للأذهان تصرفات الضباط المصريين في عام 1882 ضد السيطرة الجركسية على الجيش والتي انتهت بثورة عرابي، ولذلك رأى في مسلك الخديو تحريضا للضباط المصريين على العصيان.
وأصر كرومر على إقالة ماهر باشا وزير الحربية، وأن يصدر الخديو أمرا عسكريا يثني فيه على الجيش وعلى قادته من الإنجليز.
وبعد ضغوط هائلة وضخمة، اضطر الخديو عباس حلمي الثاني إلى قبول شروط الإنجليز فسقطت وزارة رياض باشا كلها بما فيها وزير الحربية ماهر باشا، وأصدر الخديو بيانا نشر في "الوقائع المصرية" يقول فيه إنه يهنئ الضباط المصريين والإنجليز الذين يقودون الجيش، ويعلن اعترافه بالخدمات الجليلة التي أداها الضباط الإنجليز للجيش المصري.
وهكذا أثبت المستعمرون أنهم لا يقبلون أن تمس عنجهيتهم بأي ملاحظة، حتى لو صدرت من حاكم البلاد، الذي كان المصريون يخاطبونه فيقولون عنه "ولي النعم".