رغيف الغضب.. من باريس إلى أمريكا.. ومن مصر إلى السودان.. عُضَّ قلبى ولا تعض رغيفى.. والثورة الفرنسية سببها قطعة خبز
مجددًا.. يعود رغيف العيش إلى الواجهة. قرار خاطف بتخفيض وزن الرغيف المدعم من 110 جرامات إلى 90 جرامًا أثار غضبًا وجدلًا ولغطًا في الشارع المصرى. القرار -برأى متابعين ومراقبين- يفتقد إلى الذكاء السياسي.
حكومة ضد الرئيس
الحكومة تبدو في كثير من قراراتها ومواقفها ضد توجيهات الرئيس بعدم القسوة على الفقراء والمعدومين.
القرارات تخرج كرصاصات طائشة غير محسوبة، وبدلًا من التراجع عنها وتصويب مساراتها، يتم البحث عن تفسيرات وتوضيحات خادعة وكاذبة. من جانبها.. سعت وزارة التموين إلى خداع الرأى العام ببعض الأرقام والإحصائيات، حيث قالت إنها تنتج ما يتراوح بين 250 مليونا إلى 270 مليون رغيف يوميا من خلال أكثر من 30 ألف مخبز على مستوى الجمهورية، مع المحافظة على مجموعة من الثوابت في منظومة الخبز ومن أهمها: بقاء سعر رغيف الخبز للمواطن وهى: 5 قروش على بطاقة التموين، وعدم المساس بسعره، وهو الأقل سعرًا على المستوى العالمى، كما أنه من ضمن المخبوزات الأفضل من حيث القيمة الغذائية، مع استمرار تحمل الدولة ممثلة في وزارة التموين لفرق التكلفة الإنتاجية لرغيف الخبز الواحد والتي تصل لأكثر من 50 قرشا، وكذلك المحافظة على نفس الكميات المتوفرة للمواطن يوميًا.
ما دلالات العبث بوزن رغيف العيش، وهل أعلنت الحكومة الحرب على الفقراء والغلابة وأخرجتهم من حساباتها، ولماذا تعاند توجيهات رئيس الجمهورية. وتساؤلات أخرى كثيرة نسعى بهدوء إلى الإجابة عنها خلال هذا الملف..
لم يكن الخبز أبدًا قطعة من العجين المخبوز.. لكنه حياة يحمل في طياته أسرارا عظمى لنجاة الجياع من الهلاك، ما دفع المصريين لأن يطلقوا عليه اسم "عيش" لا يمكنهم البقاء بدونه، لذا فالخبز حياة، وفي فرنسا كان الخبز محرك الثورة الفرنسية، وقامت بسببه في مصر انتفاضة، وفي الأردن وتونس والسودان احتجاجات.. فأصبح محرك حركات الشعوب الاحتجاجية.
الثورة الفرنسية
كانت البداية مع الثورة الفرنسية التي أشعلها رغيف الخبز، أدرك ذلك تورجوت، المستشار الاقتصادى للملك لويس السادس عشر، عندما نصحه ذات مرة قائلًا: "لا تعبث بالخبز" وكان السبب الرئيسي لقيام الثورة الفرنسية هو ارتفاع أسعار السلع الغذائية، وارتفاع سعر الخبز، حتى بات الشعب الفرنسي لا يجده، وحين وصل إلى مسامع ملكة فرنسا آنذاك ماري أنطوانيت زوجة الملك لويس السادس عشر، أن الشعب الجائع لا يجد خبزًا يأكله كان ردها: "إذا لم يجدوا خبزًا فليأكلوا "بريوش" يشبه "الجاتوه"!!
ولعب الخبز دورًا في التاريخ الفرنسي، وخاصة في الثورة الفرنسية؛ فعندما اقتحم الباريسيون سجن الباستيل في 14 يوليو 1789 لم يكونوا يبحثون عن الأسلحة فحسب، بل كانوا يبحثون عن المزيد من الحبوب لصنع الخبز.
ففي عام 1775، أشعل نقص الغذاء وارتفاع الأسعار الغضب الشعبي في مدن باريس، وسُجلت أكثر من 300 حالة شغب هدفها نهب الحبوب خلال ثلاثة أسابيع، وأصبحت الموجة السائدة للاحتجاج الشعبي معروفة باسم "ثورة الدقيق"، وانطلقت الاحتجاجات في فرساي قبل انتشارهم في باريس وخارجها باتجاه الريف الفرنسي.
وكان معظم الفرنسيين يرفضون تناول أي طعام بعيدا عن النظام الغذائي المتبع ذلك الوقت، عام 1789، كان الخبز يُمثل ما بين 60 إلى 80% من ميزانية عائل الأسرة الفرنسي، لذا فإن أي ارتفاع بسيط في أسعار الحبوب سيؤدي حتمًا إلى حدوث اضطرابات، بات نقص الخبز أمرًا لا يحتمل، وأشعل نقص الخبز الثورة الفرنسية، لكن الثورة نفسها لم تضع حدًا لمعاناة الفرنسيين من مشكلة نقص الخبز.
وفي 21 أكتوبر 1789، اتُهم خباز يُدعى دينيس فرانسوا بإخفاء الخبز ومنع بيعه، باعتبار ذلك جزءًا من مؤامرة لحرمان الفرنسيين من الخبز، وبالرغم من تبرئته في المحكمة، لكن الفرنسيين جروا فرانسوا لساحة جريف وشنقوه.
أمريكا
ومن فرنسا إلى أمريكا.. حيث جسد الخبز أهمية كبرى في حياة الشعوب، ففي مارس عام 1908 انطلقت تظاهرات قادتها آلاف من عاملات النسيج الأمريكيات في شوارع نيويورك، كن يحملن الخبز اليابس وباقات الورد رمزا لحركتهن الاحتجاجية؛ وكانت تلك المسيرة تطالب بتخفيض ساعات العمل ووقف تشغيل الأطفال ومنح النساء حق الاقتراع.
وأطلق على حركة العاملات الأمريكيات حركة "الخبز والورد"، وشكلت بداية حركة نسائية بالولايات المتحدة للمطالبة بكافة الحقوق الأساسية للمرأة في السياسة والمساواة في ظروف العمل. وكانت الوردة ترمز للحب والتعاطف والمساواة، أما الخبز فيرمز للحق في العمل والمساواة.
مصر
وعند المصريين الخبز يساوي الحياة، لذا أطلقوا عليه "عيش" وانطلقت لأجله العديد من الاحتجاجات منذ القدم، وأبرز الاحتجاجات المصرية لأجل الخبز كانت انتفاضة 17 و18 يناير 1977، عندما أعلن عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء ورئيس المجموعة الاقتصادية في عهد الرئيس أنور السادات، أمام مجلس الشعب، عن قيام الحكومة باتخاذ مجموعة من القرارات الاقتصادية تقضي بزيادة أسعار الخبز والسجائر والبنزين والبوتاجاز والسكر والدقيق الفاخر والذرة والسمسم والحلاوة الطحينية والفاصوليا واللحوم المذبوحة والشاي والأرز والمنسوجات والملبوسات بنسب تتراوح ما بين 30% إلى 50%.
وتسببت زيادة الأسعار وخاصة الخبز في ذعر لدى المصريين، وكانت الانتفاضة التي أطلق عليها "انتفاضة الخبز" خرجت فيها قطاعات مختلفة من الشعب المصري في مظاهرات حاشدة بعدة مدن تهتف ضد الجوع والفقر، وكانت أبرز شعاراتها "مش كفاية لبسنا الخيش.. جايين ياخدوا رغيف العيش.. يا أهالينا يا أهالينا.. آدي مطالبنا وآدي أمانينا"، واستمرت الانتفاضة التي بدأها عمال مصر وتلقفها الطلبة والمصريون على مختلف طوائفهم، وازدادت حدتها في 19 يناير؛ ما اضطر الرئيس السادات إلى إلغاء القرارات الاقتصادية.
تونس
ولم تكد انتفاضة الخبز في مصر تنتهي، حتى بدأت ثورة للخبز في تونس عام 1983، ففي يوم 19 ديسمبر 1983 أعلنت السلطات في تونس رفع سعر الخبز، وكان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة يرى أن الشعب التونسي لن يثور لأجل ذلك.
لكن شرارة ثورة التونسيين جاءت من مدينة دوز بولاية قبلي حيث تجمع المتظاهرون بسبب زيادة سعر الدقيق، وقدم التونسيون عريضة تتضمن مطالب المتظاهرين، ووقعت مشادات بين التونسيين وقوات الأمن، الأمر الذي أسفر عن اعتصام أغلب السكان بمنازلهم وأغلق التجار متاجرهم وتجمع بعض الشبان بالشوارع.
وجاب المتظاهرون الشوارع مرددين: "إذا الشعب يوما أراد الحياة" مطالبين بالرجوع في قرار زيادة أسعار الخبز، وحرك الخبز الشوارع التونسية بسبب رفع أسعار العجين ومشتقاته، ما أدى تلقائيًا إلى رفع أسعار الخبز بنسبة تزيد على 100%، واستمرار الانتفاضة حتى عام 1984، ليخرج الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة ويعلن تراجع حكومته عن رفع أسعار الدقيق والخبز، بعد أن أسفرت الانتفاضة عن مقتل 84 وأكثر من 900 جريح.. وما حدث فى مصر ويونس تكرر عبر سيناريوهات متباينة فى المغرب والسودان والأردن والجزائر.
نقلًا عن العدد الورقي..