رئيس التحرير
عصام كامل

رغيف الغضب.. النظام الغذائي المصري هو الأكثر فقرًا بين ‏جميع بلدان العالم.. وسعر رغيف العيش استمر قرشا واحدًا لـ28 عامًا

الخبز
الخبز

مجددًا.. يعود رغيف العيش إلى الواجهة. قرار خاطف بتخفيض وزن الرغيف المدعم من 110 جرامات إلى 90 جرامًا أثار غضبًا وجدلًا ولغطًا في الشارع المصرى. القرار -برأى متابعين ومراقبين- يفتقد إلى الذكاء السياسي.

 

الحكومة تبدو في كثير من قراراتها ومواقفها ضد توجيهات الرئيس بعدم القسوة على الفقراء والمعدومين. القرارات تخرج كرصاصات طائشة غير محسوبة، وبدلًا من التراجع عنها وتصويب مساراتها، يتم البحث عن تفسيرات وتوضيحات خادعة وكاذبة.

 

التضامن تراوغ 

 

من جانبها.. سعت وزارة التموين إلى خداع الرأى العام ببعض الأرقام والإحصائيات، حيث قالت إنها تنتج ما يتراوح بين 250 مليون إلى 270 مليون رغيف يوميا من خلال أكثر من 30 ألف مخبز على مستوى الجمهورية، مع المحافظة على مجموعة من الثوابت في منظومة الخبز ومن أهمها: بقاء سعر رغيف الخبز للمواطن وهى: 5 قروش على بطاقة التموين، وعدم المساس بسعره، وهو الأقل سعرًا على المستوى العالمى، كما أنه من ضمن المخبوزات الأفضل من حيث القيمة الغذائية، مع استمرار تحمل الدولة ممثلة في وزارة التموين لفرق التكلفة الإنتاجية لرغيف الخبز الواحد والتي تصل لأكثر من 50 قرشا، وكذلك المحافظة على نفس الكميات المتوفرة للمواطن يوميًا.


ما دلالات العبث بوزن رغيف العيش، وهل أعلنت الحكومة الحرب على الفقراء والغلابة وأخرجتهم من حساباتها، ولماذا تعاند توجيهات رئيس الجمهورية. وتساؤلات أخرى كثيرة نسعى بهدوء إلى الإجابة عنها خلال هذا الملف..

 

تاريخ الخبز

 


لم يكن الخبز هو قضية اليوم فقط لمصر الذي يعتبر ضمن طقوسها الغذائية التاريخية، ولكنه كان موجودًا دائما في كل ثقافات الحضارة ‏الإنسانية منذ آلاف السنين، منذ أن تم اكتشاف المزيج السحري من الحبوب والماء والحرارة.

 

وظهرت أنواع مختلفة من ‏الخبز في كل مكان، من خبز الشرق الأوسط وتورتيلا أمريكا الوسطى إلى إينجيرا الإثيوبي والموز الكندي، ويمكن القول إن الخبز بالمعنى الحرفي للكلمة هو أحد عوامل الحياة منذ آلاف السنين، تقدرها بعض الدراسات بنحو 30 ‏ألف عام على الأقل، وكان دائمًا هو العنصر الأساسي في النظام الغذائي العالمي، ولهذا فهو بجميع أشكاله أكثر الأطعمة ‏استهلاكًا على نطاق واسع في العالم. ‏


عرف إنسان ما قبل التاريخ صناعة العصيدة من الماء والحبوب، كانت قفزة صغيرة لبدء طهي هذا المزيج في مادة صلبة ‏عن طريق قليه على الحجارة، وانتقلت البشرية من هذا الخبز المسطح الذي يعود إلى عصور ما قبل التاريخ إلى رغيف ‏الخبز الحديث.

 

ولكن السؤال: لماذا تختلف استخداماته في العالم عن مصر، وما سر هذا النهم لدى المواطن المصري برغيف ‏العيش! ‏

 

 

وتراجع الاعتماد على رغيف العيش عالميا، ووفقا لبحث جديد نشرته مجلة ‏Nature Plants‏ وهي دوريةً عالميةً أسبوعية ‏رائدة في مجال العلوم، فكل جانب من جوانب دورة حياة رغيف الخبز، من زراعة الحبوب وحصادها ونقلها لطحنها إلى ‏إنتاج الدقيق، والشحن إلى المخبز، وخبز أرغفة الخبز وتعبئتها، يعتبر إضافة لكمية كبيرة من غازات الاحتباس الحراري.

 

البحث المثير للجدل يؤكد أن رغيف الخبز ينبعث منه نحو نصف كيلو من ثاني أكسيد الكربون، مما يعني أن ‏حوالي 43% من انبعاثات الغازات الناتجة عن الخبز، تعود إلى الأسمدة المستخدمة في زراعة القمح، ومن هذه ‏النسبة، يأتي ثلثا الانبعاثات من الإنتاج الفعلي للأسمدة والتي تعتمد بشكل كبير على الغاز الطبيعي.‏

 

العيش والاحتباس الحراري 


هذه النتائج التي تنبه لها العالم وخاصة في شطره المتقدم، رأت أن كل رغيف خبز هو تجسيد لوجود ظاهرة الاحتباس الحراري ‏الناتج عن استخدام الأسمدة في حقول المزارعين لزيادة محصولهم من القمح.

 

وينشأ هذا من الكمية الكبيرة من الطاقة ‏اللازمة لصنع الأسمدة ومن غاز أكسيد النيتروز المنطلق عندما يتحلل في التربة، كما تعتبر عمليات مثل حرث التربة، والري، والحصاد، واستخدام الكهرباء لتشغيل المطاحن والمخابز كثيفة الطاقة أيضًا، ‏عامل ضغط إضافيا على المناخ، لا سيما أن المزارعين عادة ما يستخدمون أسمدة أكثر مما يحتاجون إليه.

 

ولا تستخدم ‏النباتات في المقابل كل النيتروجين الموجود في الأسمدة، فيعود بعض النيتروجين إلى الغلاف الجوي كأكسيد النيتروز، وهو ‏غاز شديد الدفء، لهذا أصبح التأثير البيئي يتم احتسابه ضمن النظام العالمي للأغذية، وأصبحت هناك حوافز حقيقية لتقليل ‏اعتماد البلدان على الأسمدة. ‏

 

الخبز المصري


أما في مصر، فالقضية يطول شرحها، فالمصريون منذ القدم وهم يتناولون أرخص خبز في العالم، رغيف الخبز المصري ‏خال من الخميرة، استمر سعره بقيمة قرش واحد، منذ ثورة 1952 حتى نحو 1980، وجاءت أحداث الشغب في عام 1977 بعد محاولات إلغاء بعض الإعانات الغذائية، وزادت الحكومة سعر الخبز بحذر شديد.

 

‏وعلى مدار عدة سنوات، بدأت المخابز التي تسيطر عليها الحكومة في إنتاج رغيف جديد عالي الجودة بقرش واحد، ونمت ‏الأرغفة القديمة التي يبلغ حجمها نصف قرش بشكل مطرد أصغر حجمًا، وبحلول الوقت الذي اختفى فيه خبز نصف قرش ‏تمامًا، كان جميع المصريين تقريبًا قد تحولوا عن طيب خاطر إلى رغيف القرش الواحد ويأكل المصري البسيط على وجه التحديد، ما معدله ثلاثة أرغفة من الخبز في اليوم.

 

النظام الغذائي المصري

 

وهناك تقديرات تؤكد أن الخبز يوفر ‏نحو 71 % من احتياجاته من السعرات الحرارية والبروتينات، ولاسيما أن النظام الغذائي المصري هو الأكثر فقرًا بين ‏جميع بلدان العالم، وتدفع الحكومة المصرية نحو أربعة أخماس سعر كل رغيف خبز، ولطالما عارض صندوق النقد الدولي الدعم، حيث قال ‏الاقتصاديون المقيمون في واشنطن إنه يشوه الاقتصاد ويعيق النمو ويبطئ الاستثمار.

 

لكن القيادة السياسية المصرية كانت ‏ترى أن الفوائد السياسية لإعادة توزيع الدخل والضمان الاجتماعي منطقية، وأكثر أهمية من الإصلاح الاقتصادي المرتبط ‏بإعادة النظر في سياسة الدعم كاملة، وهو ما تغير خلال السنوات الماضية. ‏


في اتجاه آخر، بحسب دراسات تنفق الأسر الأكثر نحو 10 % من ميزانياتها الضئيلة على الخبز، في ظل ارتفاع أسعار ‏المواد الغذائية غير المدعومة مثل اللحوم، لا سيما أن عددا قليلا من المصريين هم الذين يتبعون حمية غذائية منظمة في ‏طعامهم، ولهذا يستخدم الغالبية كميات كبيرة من الخبز يوميا، وتحكي كتب التاريخ أن الظاهرة شديدة القدم، ولهذا كانت ‏مصر على سبيل المثال مخزنا لحبوب الإمبراطورية الرومانية.

 

الاكتفاء الذاتي


وعن محاولة الاكتفاء الذاتي من القمح، تقول الأبحاث والدراسات إن مصر يمكنها أن تزرع قمحها بنفسها، وكانت هناك ‏محاولات بدأت بجدية منذ السبعينيات لإدخال القمح القزم المكسيكي عالي الإنتاجية والذي تضاعف ثلاث مرات وضاعف ‏الإنتاج في آسيا أربع مرات.

 

ولكنه لم ينتشر لأن القش طويل الساق في مصر يتم تقديمه لإطعام الماشية، وهو بالنسبة ‏لصانع القرار يمكن أن يكون أكثر قيمة من الحبوب لكن مؤخرًا تعمل مصر بجدية على تحسين سلسلة توريد القمح لتلبية الطلب المتزايد على الخبز، وتدعم منظمة الأغذية ‏والزراعة والبنك الأوروبي الدولة المصرية في جهود إعادة الإعمار والتنمية.

 

وفي ظل نظام البطاقة التموينية المصرية، لم تتغير تكلفة الرغيف - خمسة قروش - منذ الثمانينيات، ولهذ أصبحت مصر ‏واحدة من أكبر مستوردي القمح في العالم، حيث تستورد أكثر من 12 مليون طن من القمح - وهو رقم من المرجح أن ‏يرتفع إلى أكثر من 15 مليون طن بحلول عام 2028.

 

وتعمل الدولة على تحديث العمليات عبر قطاع الحبوب - من عمليات التفتيش المنتظمة لصحة النبات وضوابط الجودة إلى ‏التخزين والنقل المناسبين - والعمل من أجل حل الاختناقات في جميع أنحاء سلسلة التوريد بأكملها؛ ما سيسمح للبلاد بإدارة ‏كميات كبيرة من الواردات بشكل أكثر كفاءة مع الحفاظ على الأمن الغذائي الأساسي وسلامة المستهلك، وهذا النهج ‏سيوفر وقتًا ثمينًا من خلال منع التأخيرات الكبيرة في سلسلة التوريد.‏

 

نقلًا عن العدد الورقي...

الجريدة الرسمية