توقفت الثرثرة فوق النيل واحترقت منذ 30 عاما.. مصير "عوامة " نجيب محفوظ
على بُعد خطوات قليلة من ضفة نهر النيل المقابلة لمسجد "خالد بن الوليد" في مدخل منطقة الكيت كات بالقاهرة، كانت الخطوة الأولى لتتبع أثر نجيب محفوظ في هذه المنطقة على ضفة نهر النيل حيث عاش لأكثر من 25 عاما، احتضنت مياه النيل فيض أدبه وعلمه وحكاياته التي لا بداية لها ولا نهاية.
"عوامة حسين باشا دياب"، الكائنة في شارع النيل بالجيزة، وقفة صغيرة وعودة إلى الوراء حيث حقبة الستينيات، حينما أطلق نجيب محفوظ رواية "ثرثرة فوق النيل"، التي كانت بمنزلة الرصاصة في منتصف رأس الحكومة المصرية حينذاك.
"استوت العوامة فوق مياه النيل الرصاصية مألوفة الهيئة كوجه، بين فراغ إلى اليمين احتلته عوامة دهرا قبل أن يحرقها التيار، ومصلى إلى اليسار مقام على لسان عريض من الشاطئ، محاط بسور من الطين الجاف ومفروش بحصيرة بالية".. تلك الكلمات التي بين علامتي الاقتباس هي وصف نجيب محفوظ للعوامة التي كانت بطلة حكايته في رواية "ثرثرة فوق النيل" التي كادت أن تودعه في المعتقلات، لولا تدخل الكاتب محمد حسنين هيكل لإنقاذ الموقف، فعادت السيارة التي أتت إلى منزله لاعتقاله أدراجها مرة أخرى.
ففي الوقت الذي كانت دولة عبد الناصر تؤسس لمجتمع الاشتراكية المصري الجديد، كان نجيب محفوظ في الطابق الثاني من عوامة حسين دياب، يلقي الضوء على سوءات هذا النظام ونكسة 67 وما تبعها، ربما كانت العوامة التي جعلها نجيب بطلة روايته الأكثر جرأة بعد رواية "أولاد حارتنا" في نظر بعض النقاد، هي ذاتها التي عاش بها ربع قرن وتزوج وأنجب فيها ابنتيه أم كلثوم وفاطمة، فأراد أن يخلد ذكراها في ذاكرته وذاكرة أجيال من بعده من خلال إشراكها في حبكة روائية.
حارس إحدى عوامات شارع النيل: "عوامة نجيب محفوظ احترقت من 30 عاما"
نعود من الستينيات إلى هنا إلى ما نحن عليه الآن، أغسطس 2020، ونهاره الذي يليق بأيامه الأخيرة قبل أن يلقي تحية الوداع، في شارع النيل، وفي المكان ذاته الذي استقرت به عوامة حسين دياب أو عوامة نجيب محفوظ كما أطلق عليها "عم عارف" حارس العوامة القريبة منها، مرت السنوات.. تغيرت الأنظمة وتبدلت الوجوه، وما زال الهدوء يخيم على هذه البقعة الصغيرة المنسية دائما، بيوت خشبية ذات طابق أو طابقين، تمتد على ضفة النيل بينما تفصلها عن اليابسة ممرات خشبية طويلة على جنباتها تستقر أحواض الزهور والشجيرات القصيرة، يذكرنا هذا المشهد بعوامة "رجب وأنيس" بطلي رواية ثرثرة فوق النيل والتي تحولت بعد ذلك إلى فيلم سينمائي قدم بطولته الراحلان أحمد رمزي وعماد حمدي وعدد من عمالقة السينما المصرية.
"يااه عوامة حسين دياب دي اتحرقت من حوالي 30 سنة أو أكثر، ورست مكانها عوامة تانية مالكها واحد خواجة، الله يرحمه نجيب محفوظ قعد فيها أكتر من 25 سنة، والدتي كانت بتحكي لي دائما إن معظم الفنانين والكتاب كانوا بيحبوا ييجوا يقعدوا هنا زي فريد الأطرش ونجيب الريحاني وغيرهما، العوامة كانت دورين وكبيرة، وكان الدور الثاني ساكن فيه الأستاذ نجيب محفوظ ووالدتي كانت دائما تشوفه ولما كبرت ووعيت كانت بتحكي لي عن كل شخص عاش هنا من الناس الكبيرة دي".
ربما لم يقرأ العم عارف صاحب الـ52 عاما والذي ما زال يحتفظ ببقايا "اللهجة الصعيدية" حتى هذه اللحظة، لـ نجيب محفوظ من قبل، ربما لم يعرف أن بين جدران عوامة حسين دياب هذه خرجت إلى الأدب المصري والعالمي أجمل الحكايا والسرديات والشخصيات الذين لا حصر لهم، لكنها ظلت في ذاكرته "عوامة نجيب محفوظ".
كشك زجاجي صغير وباقات من الورود الملونة تفترش مدخل مشتل "الجداوي" الملاصق لعوامة نجيب محفوظ سابقا وعوامة "الأجنبي" حاليا، "العوامة دي رست مكان عوامة تانية اتحرقت وغرقت من 30 سنة، وجت مكانها عوامة ملكها شخص أجنبي محدش يعرف عنه حاجة"، كانت هذه رواية الشاب الذي يقف في المشتل الملاصق لعوامة نجيب، والذي لم يعرف بالأساس أن أديب نوبل قد عاش في هذا المكان لربع قرن، لا يعرف سوى العوامة ذات اللون البني الداكن والدهان الوردي، والتي لا يتردد عليها أحد إلا نادرا.
لم يتحدث نجيب محفوظ في حواراته المسموعة أو المكتوبة كثيرا عن أيامه في هذه العوامة، بالرغم من أنه بقي بها ورفض أن ينتقل إلى أي شقة سكنية لشدة حبه وتعلقه بنهر النيل، ولولا حادثة سقوط طفل كان يسكن العوامة المجاورة له وخوفه من تكرار الماساة مع إحدى ابنتيه ما تركها حتى وفاته، إلا أنه أراد أن يترجم في صفحاته الأدبية التأثير الذي تركته هذه العوامة في نفسه، فيترك لنا بدوره الترجمة الأدبية لـ "أيام العوامة" التي شكلت جانبا كبيرا من حياته، في هيئة عوامة "شلة الأُنس" في رواية "ثرثرة فوق النيل"، كيف شهد هذا الصندوق الخشبي الكبير أصدق اللحظات وتعبيرات الغضب والثورة "المكبوتة" خلف أعمدة دخان الحشيش.. وكذلك رفقاء السيد أحمد عبدالجواد في ملحمته "الثلاثية".