نجيب محفوظ وجها لوجه أمام الإرهابي الذي حاول اغتياله
صباح الجمعة، الرابع عشر من أكتوبر من العام 1994 ، يتزامن ذلك مع الذكرى السادسة لحصوله على جائرة نوبل للسلام ، كان الأستاذ نجيب محفوظ يتكأ على عصاه الخشبية بنية اللون ، يهبط من سلم المنزل الكائن بحي العجوزة بالجيزة وفي انتظاره صديقه الدكتور فتحي هاشم ، استعدادا للذهاب إلى الندوة الأسبوعية بكازينو "قصر النيل". يوم عادي في حياة النجيب ينتهي بمحاولة قتل من قبل شاب ينتمي للجماعة الإسلامية يدعى "محمد ناجي".
يدخل نجيب إلى السيارة تستعد بدورها للتحرك، يناديه الشاب فينظر إليه دون تمعن فإذا بشاب أسمر يقبل عليه ويغرس سكينا في عنقه ويفر هاربا، يذهب في الحال الأستاذ إلى المستشفى، وبعد ساعات قليلة يزوره الروائي والكاتب محمد سلماوي ، الذي استطاع وبدون ترتيب مسبق أن يتحدث مع نجيب محفوظ حول طبيعة الحدث ثم بعد ذلك يحاور القاتل في مستشفى كان مودعا بها بعد إصابته في مطاردة الشرطة له في محيط سكنه بعين شمس.
في موضوعنا هذا، ومن خلال نص حواري "الأستاذ والإرهابي" مع محمد سلماوي ، وبالرغم من أن المعتدي والمُعتدى عليه لم يلتقيا ويتحادثا أبدا ، إلا أننا هنا سنجعلهم يلتقيان وجها لوجه فى حوار تخيلي ، يلقي كل منهما بوجهة نظره على الآخر، ربما نعيد بناء النهاية من جديد، في سيناريو مبني بالأساس على حديث محمد سلماوي في كتابه " في حضرة نجيب محفوظ ".
نهار / داخلي .. غرفة العناية المركزة بمستشفى الشرطة في حي العجوزة بالجيزة
غرفة محدودة المساحة يغلب عليها اللون الأصفر الفاتح، لون دهان الجدران الأربعة، يتوسطها سرير ضيق وعدد كبير من أجهزة التنفس الاصطناعي ومراقبة ضغط الدم ونبضات القلب، يرقد في السرير جسد الأستاذ نجيب محفوظ نحيلا غارقا في رداء المستشفى أخضر اللون ، بينما تلتف الضمادة البيضاء حول عنقه، صوت تكسير يقطع الصمت المُطبق على الغرفة .. شاب نحيل طويل القامة أسمر اللون ذو شعر أسود مجعد يفتح باب الغرفة، يتأبط صحيفة ورقية.
الأستاذ
من أنت؟!.. ربما رأيتك من قبل.. هل أنت ..؟
الإرهابي
نعم هو أنا.. أنا من حاول جز عنقك صباح أمس أمام منزلك، وأنت مستقل سيارة صديقك، كنت انتظر خروجك منذ الصباح الباكر.
يعتدل الأستاذ في جِلسته بينما يقترب الشاب نحيل الجسد والذي يدعى "محمد ناجي"، يسحب الكرسي الجلدي الوحيد في غرفة العناية المركزة، يكاد الكرسي يحتك بالجهة اليسرى لسرير الأستاذ، يحاول نجيب محفوظ النظر إلى وجه القاتل، تتلاقى أعينهما مباشرةً
الأستاذ
عم عمرك يا فتى أظنك في العشرينات..ماذا تعمل ؟
الإرهابي
لا شأن لك بعمري، أما عن عملي فأنا فني تصليح إلكترونيات وأحمل شهادة الدبلوم الفني الصناعي
الأستاذ
لماذا حاولت قتلي.. هل سبق أن رأيتني من قبل ؟
الإرهابي
لا لم أرك من قبل ولكنها أوامر أمير الجماعة وعلينا السمع والطاعة دون مناقشة أو مواربة، لقد أهدروا دمك فلا شأن لي بعد ذلك بالتعرف عليك.
الأستاذ
الجماعة التي سبق لها واغتالت رواد الفكر الشيخ الذهبي والدكتور فرج فودة أليس كذلك؟
الإرهابي
من هؤلاء لا اعرفهم! لا شأن لي بما تقول لقد جئت لمهمة أخرى فقط.
ألا تعرف الدكتور فرج فودة.. ألم تقرأ للشيخ الذهبي؟
الإرهابي
يعتدل الأستاذ في جٍلسته أكثر فأكثر، يتفحص الشاب الأسمر فارع القامة ، الصحيفة التي يتأبطها تثير الشكوك في نفسه، أيحمل سكينا في داخلها!، ربما..
الأستاذ
ما دمت لديك مهنتك، لماذا اخترت هذا الطريق منذ أن رأيتك للمرة الأولى رأيت فيك رياضيا، عالما أو واعظا دينيا سمح الوجه !
الإرهابي
لا شأن لك في ذلك أنا في طريق النور والهداية، لا أريد من مرتد مثلك أن يحدد لي ماذا كان يجب عليّ أن أفعل
الأستاذ
ستصدقني إذا قلت لك أنني أشعر تجاهك بالعطف الشديد كأنك ابني الذي ضل طريقه وأتمنى أن تعود إليه مرة أخرى؟
الإرهابي
لا أريد منك هذا الشعور أو نظرة الاستعطاف التي تملأ عينيك الآن
هل قرأتي أولاد حارتنا.. الثلاثية أو الحرافيش ؟
الإرهابي
لا.. استغفر الله لا حاجة لي بقراءة أعمالك التي تحرض على الإسلام.
يمعن الأستاذ النظر في عين محمد ناجي الشاب الذي حاول قتله، يرتبك الشاب بعض الشيء، يتفحص الستائر المنسدلة من الشباك الوحيد بالغرفة.
الأستاذ
لا تتهرب وانظر إلي.. أخبرني ما دوافعك النفسية والعقلية التي دفعتك بأن تغرس السكين في عنقي وأنت لا تعرفني ولم تقرأ لي؟
الإرهابي
كنت أنفذ أوامر الجماعة التي انضممت إليها منذ أربعة سنوات، كلامهم مثل السيف على رقبتي لا يمكن أن أناقشهم به. لقد أهدروا دمك بعد أن تطاولت على الإسلام في كتبك.
الأستاذ
كيف انضممت إذن لهذه الجماعة؟
الإرهابي
عرفني أحد أصدقائي من سكان منطقة عين شمس على أحد أئمة المساجد الذي يتبع الجماعة، قرأت عدد من الكتب لبعض الكبار في "الدعوة" مثل الشيخ عمر عبد الرحمن وعبود الزُمر وعبد الآخر حماد وغيرهم من أقطاب الجماعة الإسلامية.
الأستاذ
كنت تريد قتلي أنا وجميع أفراد أسرتي أليس كذلك؟
الإرهابي
لالا.. كان الاتفاق أن نصعد إلى شقتك ومعنا شخصا للتمويه يحمل باقة ورد مدعيًا أنه يقدمها إليك، ثم يخرج الآخر مسدسًا ويهدد أفراد أسرتك بأن من يصدر أي صوت سيقتل في الحال ، في حين أدخل أنا إلى غرفتك وأجز عنقك بالسكين، ولكن المهمة فشلت فكان الإتفاق أن آتي في اليوم التالي وأقتلك في توقيت توجهك إلى جلساتك اليومية مع الأصدقاء.
يمنع الأستاذ نجيب محفوظ الدمعة المعلقة بعينيه من السقوط، يمسك بإحدى يديه الضمادة البيضاء ويمرر أصابعه فوق مكان الجرح القطعي في رقبته، رغبة أخرى في الاعتدال أكثر ناحية الجهة التي يجلس بها الإرهابي.
الأستاذ
كيف استقبلك زملاؤك في عين شمس بعد أن أخبرتهم بنجاح مهمتك في قتلي ؟
الإرهابي
تمنيت أن تكون قد قُتلت بالفعل، قالوا لي مبروك حينما أخبرتهم أنني غرست السكين في عنقك.
الأستاذ
ألم تتردد لحظة قبل أن تغرس سكينك في عنقي.. مثلا ألم تر في وجهي وجسدي النحيل هيئة والدك؟
الإرهابي
كلا.. ولا تضع نفسك في مقارنة مع والدي، أنت تهاجم الإسلام في كتبك وتسعى دائما لهدم الثوابت الدينية.
الأستاذ
كتبي التي لم تقرأها أليس كذلك؟
الإرهابي
.....
الأستاذ
لماذا لم تحاول استتابتي إذن مادمت في نظرك مرتدًا؟
الإرهابي
....
لحظة صمت ربما تستمر لخمس دقائق أو أكثر، يتلتف الشاب محمد ناجي حوله خشية دخول أحد أفراد طاقم التمريض أو الطبيب للاطمئان على تطورات الحالة الصحية للأستاذ نجيب محفوظ، لا يحاول الأستاذ أن يقوم بأي تصرف عدائي أو يصدر أي صوت، يبقى هادئا وصوته منخفضا وواهنا، على غير عادته.
الأستاذ
لو أعطوك سكينا أخرى الآن، هل ستقبل على إعادة محاولة الاغتيال مرة ثانية؟
يرتاب الإرهابي، ينتفض وتتزايد نبضات قلبه، يمسك بالصحيفة التي يتأبطها جيدا، ينظر مباشرةً في عيني الأستاذ، ويقول
ربما جئت لهذا السبب، وربما لا..