إحسان عبد القدوس يتذكر ذكريات الحج إلى بيت الله الحرام
زار الأديب الرومانسى إحسان عبد القدوس ــ رحل 1990ـــ بيت الله الحرام فى موسم الحج فى الخمسينات وعاد ليكتب ذكرياته عن رحلته للحج فى مقال نشرته مجلة روز اليوسف عام 1958 يصف فيه شعوره وإحساسه وهو واقفا بين يدى الله فى مكة قال فيه:
إن العقل الذى مهما وعى ومهما اتسع له الأفق لا يستطيع أن يخرج عن حدود المادة ولا يستطيع أن يعى أكثر مما يلمسه .
يجب ان اسكت هذا العقل اذا أردت أن أصل الى الله ، فيارب أعنى على عقلى ، انا عار إلا من كفنى ..فأنا ذاهب لأبحث عن الله فى بيته .
رأيت الجبال التى تحيط ببيت الله وقد انحنت كلها إلى الأمام وكأنها الملائكة خشعوا سجدا .
رأيت جبل النور حيث غار حراء يقف بينها ضخما عاليا مشرقا كأنه عرش الله ..رأيت موجات الرمال كأنها آثار أقدام عمالقة من هواء لا نراهم ، وهم يسعون حول العرش .
أحسست برياح ندية تملأ صدرى وأحسست كأنى ارتفع عن السيارة التى أجلس فيها ، وأسعى فى الهواء وأنا بملابس الاحرام بين الجبال والاودية .
ارتجفت وخفت ..اننى حقا فى طريقى الى الله ، لم أرفع عينى عن الكعبة ، لا أريد أن أرفعها ، اننى منكس الرأس مغمض العينين أسير وراء الدليل بلا وعى .
بدأت الطواف وسط مئات يطوفون ولا ينقطع طوافهم ليل نهار ..وبدأت البحث عن الله فى بيته ..ولا أستطيع ان أصل اليه .
يارب انى لم أصلى لك كثيرا ، ولم أصم لك كثيرا لكنى آمنت بك كثيرا ، وخفتك كثيرا وراعيت حقك فى الناس كثيرا واستغفرتك كثيرا وتوكلت عليك كثيرا فلا تحسبنى فى عداد الكافرين وابعد عنى العذاب الاليم.
بدأت الطوفة السادسة ، لم اعد اشعر بكيانى ..انى روح خالصة لله وانكفأت على جدار الكعبة وتعلقت فى استارها بيدى ورأيت الله ، رأيته فى قلبى وفى صدرى .
فى الطوفة السابعة احسست بأن هواء طاهر رطب يملأ صدرى ويكاد يرفعنى عن الارض ويسير بى فوق السحاب ،لم اشعر بالبيت ولا بالمسلمين الطوافين معى ، وعندما قبلت الحجر الاسود لم اشعر بشئ ..لكنى توقفت وسألت نفسى واحسست ببعض التأنيب ..هل جئت لأطلب من الله شيئا ام لانى فقط احب الله حبا خالصا ؟
اقرا ايضا:
إحسان عبد القدوس يكتب: ديكتاتورية الشعب
انه عالم كبير لا يجمعه شئ الا الايمان بالله ..والايمان ذخيرة كبيرة لو عرف المسلمين ..ذخيرة تستطيع ان تجمعهم للعلم وللفن وللحرب والسياسة
لقد نسى المسلمون حكمة الله ونبيه ..انهم يأتون الى هنا وكل منهم لا يسعى الا الى تصفية حسابه مع الله والحصول على صك الغفران ويعود الى اهله وهو يحمل لقب حاج ولا ينتظر منهم الا ان يستقبلوه على محطة كوبرى الليمون بالطبل والزمر ويقبلون يده تبركا ويضعونه فى عربة حنطور تطوف به الحوارى والازقة .
غربت الشمس وخيل الى انها غربت عن هذا البيت الامين وتركت وراءها هالة كبيرة ، وقفت اصلى وكأنى لم انقطع عن الصلاة يوما وكنت سعيدا ..ألست واقفا بين يدى الهادى الحبيب .