نهى برادة: "أسلمة" كل شيء أدى لتراجع كل شيء.. وما زلنا ندفع ثمن إخراج السادات للإخوان من القمقم (حوار)
فترة حسنى مبارك كانت كل الفنون تسير "بالتواكل" والفرق بين عبد الناصر والسادات كالفرق بين عبد القادر حاتم وثروت عكاشة
عشقت الرسم منذ طفولتي.. وأحب دمياط وأهلها لهذا السبب
أستاذي في الجامعة نصحني بالابتعاد عن الشيوعيين.. وأول عمل لى في التليفزيون كان بتوقيع نجيب محفوظ
جدى لأمى كان أول مدير مصرى لمدرسة الخديوية.. وجدى لوالدى أول مدير مصرى لدار الكتب
حسب التاريخ المهني لعائلتها كان من المفترض أن تصبح السيدة نهى برادة طبيبة مثلها مثل معظم أبناء العائلة، لكنها اختارت طريقا مختلفا فرضه عليها حبها للفن، وعشقها للرسم منذ نعومة أظافرها.
التحقت الشابة الصغيرة وقتها بكلية الفنون الجميلة ومن هناك بدأت رحلتها الطويلة في عالم المسرح باعتبارها أول مهندسة ديكور مسرحى في مصر والعالم العربي، وكان من حسن حظها أن عملها الأول على خشبة "أبو الفنون" مسرحية من تأليف أديب نوبل نجيب محفوظ، وهى في الثانية والعشرين من عمرها.
عن تفاصيل تلك الرحلة، وكواليس صعودها الكبير، تتحدث الفنانة الكبيرة نهى برادة في ذلك الحوار:
*كيف كانت النشأة والبدايات الأولى؟
أنا بنت سبعة شهور، من الذين لا يعيشون كما يقولون، والحمد لله أننى ما زلت أعيش، عندما كانت والدتى في زيارة لأسرتها في دمياط، فوجئت بآلام الوضع قبل الموعد، أشعر بارتباط غريب مثل كل الدمياطة تجاه دمياط، برغم أن والدى ليس من دمياط.
وكنا نعيش في القاهرة، أحب أهل دمياط لأن شبابها يعملون في الإجازة ليس من أجل المال، ولكنهم يعشقون العمل وهذه قيمة إنسانية رائعة، والدى كان طبيبا للأسنان، ووالدتى خريجة مدارس أجنبية "الليسيه" وبقانون هذا الزمن تزوجت والدتى صغيرة السن، كان والدى "مدلع" والدتى، وهذا لفت نظرى منذ طفولتى وهذا انعكس على، فأنا وحيدة ليس لى أشقاء، فكنت فاكهة البيت ودلوعة الجميع، وحسب قانون عائلة برادة المفروض أكون طبيبة، لأن بها عددا كبيرا من الأطباء، وبرادة عائلة كبيرة جذورها في مدينة فاس بالمغرب.
وشجرة العائلة عندى بها جدودى من المغرب، وعائلة والدتى الكردانى، وهى الأخرى عائلة كبيرة. لبيب الكردانى جدى لوالدتى لم أره ولكن من خلال الحكايات التي سمعته عنه تمنيت أن أراه، وهو توفى صغيرا قبل زواج والدتى، كان أول مدير لمدرسة الخديوية، وصاحب شخصية قوية ومحبوبا في نفس الوقت، يقال عندما كانت المظاهرات تملأ شوارع القاهرة، إنه كان يفتح باب المدرسة للطلاب، ولكن من نظرة عينيه كان الطلاب يعرفون ما إذا كانوا يخرجون أم لا.. هذا دليل قوة شخصيته وانضباط الطلبة وارتباطهم بالمدير.
وكان مهيبا شكلا وموضوعا، وأذكر هنا أن الفنان الكبير محمود المليجى كان يردد دائما أن الفضل في عمله في الفن هو تشجيع الأستاذ لبيب بك الكردانى.
*كيف بدأت موهبة الرسم لديك؟
منذ وعيت على الدنيا وأنا أمارس الرسم، وكان جدى لوالدى يتابعنى ويحتفظ برسوماتى، والحقيقة كنت محظوظة فجدى لوالدى كان وكيل وزارة بالمعارف – التربية والتعليم – وكان أول مدير مصري لدار الكتب، لأن كل من أدارها قبله كانوا إنجليزًا.
والدكتور يوسف برادة أحد رواد جراحة المخ والأعصاب في مصر والعالم العربى، له موقف كلما تذكرته ابتسم، بعد أن عملت في المسرح وبدأ اسمى يكتب على الأفيشات في الشوارع كان يقول: أخيرا اسم برادة بيلعلع وهذا بفضل نهى.. طبعا هذا يكشف مدى التخبط في المجتمع، فهذا الطبيب رائد في جراحة المخ والأعصاب ولكن غير معروف، في حين يجب أن يكون أحد نجوم المجتمع، في الوقت الذي نسمع أرقاما فلكية في مجالات الفن لا تعبر إطلاقا عن قيمة العمل بعكس العلماء المهدور حقهم.
كانت والدتى تحب الانتقال من سكن إلى آخر، خاصة أن هذا لم يكن فيه أي مشكلة، وأذكر وأنا في سن التاسعة انتقلنا للسكن في نهاية شارع نوال الحالى، وقريبا من المتحف الزراعى، وكان السكن الجديد في مواجهة بيت هيكل باشا، الدور الأرضى يسكنه مالك البيت اسمه راغب عياد ويضم حديقة، ونحن في الدور الأول، كان هذا الرجل ليس لديه أطفال، فلما علم بأننى أحب الرسم كان يدعونى للرسم معه، واهتم بى وكنت سعيدة جدا، لم أكن أعرف أنه الفنان الكبير الرائد ولا أعرف أساسا يعنى إيه فنان، إلا أننى اعتبرت نفسى طفلة محظوظة باحتكاكى بالفنان الكبير الرائع الذي نتعلم حتى الآن من أعماله.
*وماذا عن الدراسة؟
كنت محظوظة أيضا أثناء إنهاء دراستى المدرسية، فقد كانت المدارس الأجنبية تأتينا الامتحانات والشهادات من إنجلترا، كان ذلك حتى 1956 ولم ندرس منهج اللغة العربية المعتمد من وزارة التربية والتعليم، وندرس عربى دون المستوى، في عام 1957 تقرر دراسة المنهج المعتمد ودرسنا النقد والبلاغة والنصوص والنحو، كنا أول دفعة ندرس هذا، قيمته الحقيقية أولا أننا تعلمنا اللغة العربية على أسس سليمة وثانيا إعفائى من امتحان المعادلة للغة العربية الذي يمتحنه خريجو المدارس الأجنبية في الكلية ولا يمكن الحصول على شهادة البكالوريوس إلا بالنجاح في المعادلة.
*وهل كنت تعتزمين دراسة الرسم؟
المخطط لى كان الالتحاق بكلية طب الأسنان، وبالفعل ذهبت لزيارة الكلية بالجامعة الأمريكية مع إحدى قريباتى، وحدث أن بعض الشباب عاكسونى أنا وقريبتى، فعدت إلى البيت وأبلغت والدتى بعدم الرغبة في هذه الكلية لأن الشباب فيها "قليل الأدب" طبعا ربما هذا الكلام يثير سخرية البعض، ولكن أنا تربية مدارس راهبات ولأول مرة يحدث هذا معى.
وكنت البنت الوحيدة مع أقاربى، وكنت ألعب معهم كل ألعاب الأولاد ، ولم أشعر بأننى اختلف عنهم، ولكن لم التحق بالجامعة الأمريكية ليس لهذا السبب ولكن لصغر سنى. وبسببه أيضا رفضت كلية الفنون الجميلة قبولى، ويومها قال الأستاذ أحمد الحسينى وكيل الكلية، البنت صغيرة وطبيعة الدراسة في الكلية تضطر الطلبة للتأخر والسهر وهذا صعب على نهى، وطلب عودتى للمدرسة مرة أخرى وهذا ممكن للمدارس الأجنبية.
ومن حقى اختيار المواد التي أدرسها وفى نفس الوقت طلب أن أدرس في القسم الحر خلال هذه السنة وأعود بعد سنة للالتحاق بالكلية، اقتنعت الأسرة بهذا الرأى، وعدت إلى المدرسة مرة أخرى، واخترت في المدرسة مادة الرسم، وهنا ثارت المعلمة في وجهى كيف اختار الرسم وصعب النجاح فيه لأن النجاح في الرسم يستلزمه التدريب يوميا ست ساعات.
وأشفقت على وأحضرت عددا من الكتب، حتى أتدرب على الرسم ولم تكن تعلم أننى في القسم الحر في كلية الفنون الجميلة، لهذا لا أستطيع أن أنسى صورتها عند ظهور النتيجة وهى تكاد تجرى نحوى لتبلغنى بنجاحى، كانت سعادتها لا توصف ربما فاق سعادتى، للعلم كل طاقم التدريس كان من الإنجليز.
*كيف كان التحاقك بكلية الفنون الجميلة؟
كان التحاقى بكلية الفنون الجميلة بالقسم الحر نقطة مهمة في حياتى، فقد التقيت الفنان الكبير ناجى شاكر، واهتم بى جدا، وأشركنى في التلوين ومساعدته في مشروع تخرجه، ونصحنى بأهمية الابتعاد عن قسم التصوير والابتعاد عنهم تماما، بل وحذرنى من مجرد الاختلاط بالقسم كله.
واعتقد أنه أراد إبعادى عن القسم لوجود عدد من الشيوعيين الموجودين بالقسم، وطلب منى الالتحاق بقسم الديكور، وذلك عندما التحقت بالكلية بعد عام، ومن أكثر ممن تعلمت على أيديهم في الكلية الفنان الكبير صلاح عبدالكريم، تأثيره على كان كبيرا جدا طريقة شغله ، إعجابى بفنه وشخصيته كأستاذ يتواصل مع طلابه بأسلوب السهل الممتنع.
وأحببت إبداعات الفنان الكبير الحسين فوزى الذي عرفته من رسوماته في الأهرام، وأحتفظ برسوماته حتى الآن، وأحببت شغل الفنان عبد الله جوهر وكلاهما لم يدرس لى ولكن كنت شغوفة بفنهما، كما أننى عشقت أعمال الفنان الكبير حسين بيكار من خارج الكلية، والثلاثة لم يدرسوا لى مباشرة. لم أدرس ديكور مسرح في الكلية، ولكن حدث ذات يوم كنا نرسم القلعة، ونظرا لمرضى بمغص كلوى، قدمت اللوحة الخاصة بالقلعة، فلم تعجب لجنة التحكيم د. صلاح عبد الكريم ود.كمال حمودة ود.سامى رافع.
فطلبت تأجيل تسليم العمل لأننى مريضة، تم رفض طلبى وقالوا كيف أشطر طالبة تطلب تأجيل تقديم عملها؟ عدت للبيت وأنا في غاية الإرهاق والتعب، فرسمت اللوحة مرة أخرى ولكنى اختصرت التفاصيل واستخدمت موسى الحلاقة في الرسم وقلت لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..!.
في اليوم التالى دخلت حجرة الأساتذة فإذا بالفنان سامى رافع بمجرد أن رأى اللوحة يقول بصوت عالى : البنت دى فجرت..ده فجر.. طبعا أنا لا أعرف لماذا قال هذا الكلام ولا فاهمة أي حاجة مطلقا من كلامهم معا إلا أن الفنان سامى رافع قال: البنت دى بتاعت مسرح صرف ، هذه اللوحة حصلت على 98 %.! هذا كل ما حدث معى في الكلية بالنسبة للمسرح، بمعنى أن المسرح لم يكن موضوع دراسة أو في اهتماماتى نهائيا.
*هل كنت متفوقة في الدراسة الجامعية؟
كنت الأولى على القسم، والطبيعى أن يتم تعيينى معيدة في الكلية، ولكن لأسباب ما لم يتم تعيينى وترك المكان خاليا من أجل زميلة أخرى كنت أسبقها بدفعتين، والأمر لم يكن لى حلما أو هدفا ولكن لم تمر أيام كثيرة حتى أعلن التليفزيون عن حاجته لأوائل كليات الفنون الجميلة والتطبيقية،لم أقدم ولكن زملائى هم من كتبوا اسمى دون أن يسألونى.
وفوجئت بخطاب حكومى من التليفزيون يخبرنى بموعد مقابلة مع لجنة الاختيار، ذهبت وأخذت معى لوحتين، وأفاجأ بلجنة التحكيم الفنان صلاح عبدالكريم والفنان عبد الفتاح البيلى أساتذتى، وبمجرد أن دخلت عليهم قالوا: جايه ليه؟ تعالى استلمى فورًا ، وكانت هذه أولى الخطوات في عالم التليفزيون والمسرح فيما بعد، لأننى عملت في مسرح التليفزيون.
وكان معى من الفنون فوزى أبو شال – فنون تطبيقية - وسمير ثابت ولكنه هاجر لإنجلترا، وبعد ذلك ماجد عبد الرازق – بابا ماجد- بالرغم أنه دفعتى فنون جميلة، من هنا بدأ مسرح التليفزيون.
*وماذا عن كواليس أول عمل لك؟
أول عمل لا ينسى، ليس لأنه أول عمل فقط، ولكنه من تأليف نجيب محفوظ وإخراج حسين كمال، وكان أول عمل مسرحى للفنان الكبير عماد حمدى، وأول عمل للعائد من أوروبا حسين كمال، بالإضافة إلى خان الخليلى هذا العالم المدهش.
أما الفنان حسين كمال الذي درس الأزياء في أوروبا، فهو أحد العباقرة، عاشق لفنه، كان ينزل إلى الجمالية معى لشراء الإكسسوارات، يتابع كل شىء بدقة متناهية، وفى نفس الوقت يشيد بمن يعملون معه، ولكن السؤال كيف أبدأ في ديكور مسرحية بدون خبرة؟ ذهبت للفنان صلاح عبد الكريم الذي أعطانى بعض الملاحظات عن أهمية التركيز على مراعاة زوايا الرؤيا على المسرح للمتفرج، انبهر حسين كمال بتصميماتى أولا، وقال أوكى هايل نفذى.
*برأيك كيف كانت علاقة الرؤساء بالفن؟
في فترة الرئيس السادات للأسف حكاية "أسلمة" كل شيء أدت إلى تراجع كل شيء، أخرج الإخوان من القمقم ومصر دفعت الثمن وحتى الآن ما زلنا ندفع الثمن والحجة هى ضرب الروس ، أما فترة حسنى مبارك فكانت كل الفنون تسير "بالتواكل" ، والفرق بين عبد الناصر ومن جاء بعده الفرق بين عبد القادر حاتم وثروت عكاشة لهما رؤية وإرادة سياسية ولم يأت مثلهما.
*وماذا بعد الاعتزال؟
حاليًا بعد اعتزالى العمل في المسرح أفكر ألعب كرة بعد الملايين التي نسمعها.
الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ "فيتو"...