رئيس التحرير
عصام كامل

هل تسير إثيوبيا على خطى يوغسلافيا في التفكك والانهيار المجتمعي؟

فيتو

تعرضت إثيوبيا، على مدار الشهور القليلة الماضية للعديد من التحولات غير المسبوقة في تاريخها، بعدما وقع رئيس وزرائها، آبي أحمد، اتفاقا للسلام مع إريتريا أنهى سنوات من التوتر المتطاول بين البلدين.

 

ليس ذلك فحسب، بل مَنح العفو لآلاف الشخصيات والمنظمات التي اتُهمت بالإرهاب في وقت سابق، ودعا في الوقت ذاته كافة مجموعات المعارضة -الموجودة في إثيوبيا أو في أماكن أخرى- للعودة إلى البلاد والمشاركة في عملية التحوّل السلمي.

 

وأصبح بوسع وسائل الإعلام تناول ومناقشة الأوضاع بحرية أكثر. بالتوازي مع ذلك، أُنشئت مجموعات عمل ومجالس إصلاح قانوني لمراجعة الأنظمة التي كان لها دور حاسم في كبت الحقوق المدنية والسياسية، هذا بالإضافة إلى أن نصف أعضاء حكومة آبي أحمد مؤلفة من النساء.


وبحسب مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، يجب القول إن هذا التغيير السريع وغير المسبوق جاء على خلفية اضطرابات مقلقة مرت بها البلاد، فإثيوبيا دولة متعددة الأعراق تحتضن نحو 100 مليون شخص تعود أصولهم إلى 80 مجموعة عرقية تتحدث لغات متعددة، وهذا يجعل من مسألة التحوّل في إثيوبيا قضية تحظى بأهمية إقليمية خاصّة.


وعلاوة على ما سبق فإن هذا التحول قد يحمل خطرا بداخله، لأن الانفتاح قد يُذكي مجال النزاعات العرقية، فيتسع حجمها وتصبح أكثر ضراوة؛ سواء كان ذلك بسبب مواقف القوى المحافظة الرافضة للإصلاحات السريعة أو بسبب التحرر والانفتاح المفاجئ في المشهد السياسي العام. وهذه النزاعات قد تدفع بدورها مجموعات عرقية للقيام بتحركات غير صائبة، كالدعوة للانفصال التي قد تترتب عليها عواقب وخيمة في مجتمعات يسودها العنف، باعتباره الوسيلة الرئيسية في تسوية النزاعات الأهلية.


في واقع الأمر، إن النظام السياسي السائد في إثيوبيا اليوم يحمل أوجه تماثل كبيرة مع النظام السياسي الذي كان سائدا في يوغسلافيا في فترة التسعينيّات. فعلى غرار يوغسلافيا السابقة، تعتبر إثيوبيا دولة فيدرالية تضم تسع وحدات سياسية مكوّنة على أسس عرقية، كما أن تسميات أقاليم "التجراي والصومال والأمهرا والأروميا"، التي تُشكّل نسبة 80% من مساحة إثيوبيا، جاءت على خلفية المجموعات العرقية المهيمنة في تلك المناطق.

 

إلى جانب ذلك، يتبيّن من التجربة الإثيوبية أن مشروع تمكين المجموعات العرقية -الذي يُتيح المشاركة في الحكم الذاتي الإقليمي- كان في الواقع سلاحا ذا حدين: فمن ناحية، قلّلت المشاركة في الحكم الذاتي من التوتر الناشئ عن هيمنة مجموعة عرقية واحدة على مفاصل الحكم، ومن الناحية الثانية أُقحمت مسألة الانتماء العرقي في قلب العمل السياسي المقرون بالأرض؛ وهذا في نهاية المطاف يزيد مخاطر التوتر العرقي.

 


أما يوغوسلافيا، فقد كانت تجربتها محكومة برابطة من الشيوعيين متعددي القوميات إلى أن غدت في عام 1990 اتحادا فعليا للأحزاب الجمهورية.

 

وبالمقابل، خضعت إثيوبيا لعقود من حكم الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا (EPRDF)، وهي في الأساس ائتلاف من الأحزاب السياسية العرقية الإقليمية، التي تهمين عليها جبهة تحرير شعب التجراي (TPLF) ذات التوجه الاشتراكي.

 

وقد تميزت التجربتان -في يوغسلافيا وإثيوبيا- بسمات غير ديمقراطية مقرونة مع الأثنوفيدرالية.


إضافة إلى ما سبق، شهدت يوغسلافيا تحوّلا سياسيا في أواخر الثمانينيات، مماثلا لما يحصل اليوم في إثيوبيا.

 

ويتضح من وضع إثيوبيا الحالي، ومن وضع يوغسلافيا في ذلك الوقت، تصدُّر الأسئلة المتعلقة بالنظام السياسي والاقتصادي المستقبلي، في الوقت الذي يأخذ فيه الصراع على السلطة طابع السياسة العرقية.

 

وفي هذا الإطار، يمكن القول إن المجموعات المحافظة في تجربة البلدين -سواء كانت من مجموعات العسكريين وحلفائهم وسط القيادة الصربية في يوغسلافيا السابقة أو تعلق الأمر بجبهة تحرير شعب التجراي وحلفائها العسكريين والاستخباراتيين في إثيوبيا- سيضعفُ نفوذها أكثر من أي قوى أخرى بسب هذا التحوّل الديمقراطي.


قد لا يبدو أن هناك سببا كافيا للخوف في الوقت الراهن، لكن مع ذلك يجب ألا ننسى أن دعاوى الانفصال ظلّت قائمة منذ عقود وسط مجموعة صغيرة في الإقليم الصومالي الإثيوبي، حوّلت الإقليم إلى منطقة نزاع دائم حتى وقت قريب، وقد يصبح إقليم التجراي هو الآخر مصدر أزمة.

 


بالطبع، قد يعتبر البعض هذه المخاوف من قبيل "المخاطر المتوهمة"، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار مصالح هذه الأقاليم القوية في وجود دولة إثيوبية موحّدة. غير أن سلطات تلك الأقاليم شرعت بالفعل في بعث رسائل تهديد ضمني بالانفصال، بل ومنعت قوات الشرطة الفيدرالية من الوصول إلى مناطقها ووفرت ملاذات آمنة للأفراد المشتبه فيهم بارتكاب قضايا فساد وجرائم ضد الإنسانية.

 

والحال كذلك، فإثيوبيا ستواجه خطر التشظي العرقي، ما لم تتوفر إدارة حصيفة لهذا التحول الدقيق.


عقب موت جوزيف بروز تيتو، الرئيس المخوّل بالحكم مدى الحياة في 1980، خفّفت رابطة الشيوعيين الحاكمة في البلاد من غلواء قوانينها في أجزاء كبيرة من يوغسلافيا، فنتج عن ذلك اتساع في حرية الصحافة والنقاش العام بشأن الإصلاحات الاقتصادية.

 

ولكن في مقابل ذلك، فتحت الحرية المجال لتنامي النزعة القومية في البلاد. ونظرا لاختلاف وجهات النظر حول تلك القضايا داخل الحزب الحاكم في أجزاء مختلفة من البلاد، لم يستطع الحزب اللجوء إلى القمع، وبالتالي أصبح الخطاب القومي العرقي أكثر رواجا في البلاد. ومن هنا، بدأت الخلافات تظهر بين المثقفين والسياسيين من سكان المناطق الشمالية الثرية وبين سكان المناطق الفقيرة في الجنوب، وأصبحت الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية مصدرا متزايدا للنقاش المثير للجدل.


أما في الوقت السابق، فقد عمل الحزب والرئيس تيتو على فرض روايتهم في قراءة تلك الأحداث ووسموا كل من يعارضها بأنه متعاون نازي. وعلى النقيض من الاتحاد السوفيتي، حيث كان يتم نفي المعارضين أو قتلهم، كان القمع يحدث في يوغسلافيا على نحو أكثر دهاء ودونما حاجة إلى اللجوء إلى معسكرات الاعتقال.

 

وبما أن ذكريات هذا القمع لم تكن تتم مناقشتها بشكل عام حتى فترة الثمانينيات، فقد شكّلت مصدرا قويا للقوميين خصوصا في مسألة إلقاء اللوم على المجموعات العرقية الأخرى في يوغسلافيا. بناء عليه، يمكن القول إن أحداث التفكك العنيف الذي شهدته البلاد كانت قد ظهرت بوادره في سنوات سابقة عندما بدأت النخب السياسية سعيها للحصول على السلطة، من خلال ما توفره الفيدرالية العرقية بوصفها البنية السياسية للبلاد. معروف أن اتحاد يوغسلافيا كان مقسّما إلى ستّ جمهوريات ومحافظتين، تُسيطر في كل واحدة منها مجموعة عرقية (باستثناء بوسنة وفويفودينا)، وبالتالي أصبح بمقدور تلك المجموعات الاستيلاء على الجمهوريات، لينتهي الأمر في النهاية إلى الانفصال والتطهير العرقي والحرب.

 


في هذا الوقت كان الدعم والاهتمام بيوغسلافيا قد تراجع مع انتهاء الحرب الباردة، ونتج عن ذلك عدم اكتراث دولي بأوضاع البلاد. إضافة إلى ذلك، ضاعفت سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين حدة التوترات في يوغسلافيا بسبب مطالبتهما لها بتبني سياسات اقتصادية تقشفية ومركزية في البلاد مما أدّى إلى اضطرابات، نتيجة إغفال المناخ السياسي الداخلي.

 

وتمخض عن الأزمة التي تلت ذلك ارتفاع في معدلات البطالة وعجز في الميزانية، ساهما بدورهما في تقويض الثقة في الدولة اليوغسلافية.

 

إلى جانب ذلك، أدّى غياب القائد والنخبة الموحِّدة -في ظل انهيار الأفكار والمؤسسات الجامعة- إلى تعجيل وتيرة العنف في البلاد، فبرع السياسيون في هذه الفترة وبرز النجم الصربي الشيوعي، سلوبودان ميلوسوفيتش، في إعادة توجيه المظالم الاجتماعية والسياسية ضد المجموعات العرقية الأخرى خاصة تجاه الألبان في كوسوفو.

 


ليس من المتوقع أن يتكرر سيناريو يوغسلافيا في إثيوبيا، لكنه بالطبع يقدم إنذارا مفاده: إن الأنظمة الفيدرالية العرقية، في فترات الانفتاح السياسي، تكون قابلة للاشتعال أكثر من غيرها. مع ذلك، هناك بعض الفروق في التجربتين تصب في صالح إثيوبيا، وهي:


أولا، الأقاليم والوحدات المكوّنة للاتحاد الفيدرالي في إثيوبيا لم تكن قائمة من قبل كدول مستقلة.


ثانيا، رغم الانتماءات العرقية، فإن الولاء للدولة الإثيوبية لا يزال قويا. وهو الأمر الذي ينطبق حتى على غلاة القوميين مثل جبهة تحرير أورومو، فهم في الغالب يعملون كرد فعل على المظالم التي حدثت في الماضي، أكثر من اعتراضهم على وجود الدولة.


ثالثا، الروابط بين الأعراق في إثيوبيا تبدو قوية؛ ففي نهاية المطاف، كل المجموعات العرقية تتذكر نضالها المشترك ضد الغزو الإيطالي لبلادها قبل أكثر من 80 عاما. بينما في يوغسلافيا لم تكن المقاومة ضد النازية محل إجماع، فقد كان هناك انقسام بين المقاومة والمتعاونين مع النازية.


وأخيرا، تبدو عملية الانفصال مسألة مستحيلة في المناطق الرئيسية في إثيوبيا؛ فعلى سبيل المثال، يمثّل إقليم أوروميا المركز الجيوسياسي في إثيوبيا، وبالتالي فإن انقسام منطقة كبيرة بهذا الحجم تبدو مستحيلة من الناحية الجغرافية، إلا في حالة حدوث انهيار كامل لدولة إثيوبيا، على عكس تجربة يوغسلافيا، حيث كان للمطالبين الرئيسين للانفصال حدود مع دول أخرى.


نشير في هذا السياق إلى أن الرابطة الصربية للشيوعيين في يوغسلافيا كانت قد دعت في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات إلى دولة مركزية وإبقاء البلد موحدا ولو اقتضى ذلك استخدام القوة، فيما دافعت الأحزاب الأخرى في سلوفينيا وفي كرواتيا عن فكرة الانفصال.

 

أما في إثيوبيا فهناك تحوّل مغاير لما جرى في يوغسلافيا، فالأحزاب التي قامت برامجها السياسية على فكرة المطالبة بحق تقرير المصير وأحيانا الانفصال -وهي حقوق يُقرّها الدستور الإثيوبي- تحوّلت مؤخرا إلى أحزاب تدعو إلى وحدة إثيوبيا. الحزبان الكبيران في ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا -مثل حزب أورومو الديمقراطي وحزب الأمهرا الديمقراطي، اللذين يستحوذان على نسبة 70% من مساحة إثيوبيا ويسطران على الحكومة الفيدرالية وعلى إدارة إقليمي أوروميا والأمهر- يعتبران من فئة الأحزاب التي تنادي الآن بالوحدة. والأمر نفسه بالنسبة لمنطقة الشعوب والقوميات الجنوبية، التي تُشكّل نسبة 20% من مساحة إثيوبيا، فهي الأخرى ملتزمة حاليا بمشروع الدولة الموحّدة.


رغم هذه الضمانات فإن هناك العديد من المخاطر التي لا تزال قد تعصف بوحدة البلاد، فعلى غرار مجموعات الكروات والسلوفينيين في يوغسلافيا، هناك أيضا مجموعات في إثيوبيا -مثل الإدارة الإقليمية في التجراي- تهدد الحكومة الفيدرالية بالدعوة للانفصال. في الواقع، إن جبهة تحرير شعب التجراي (TPLF) -تحكم إقليما يضم أقل من 10% من سكان إثيوبيا- التي كانت تهيمن بصورة استثنائية على المشهد السياسي والاقتصادي، على مدى العقود الثلاثة الماضية، تقوم الآن بتهديد ضمني في سبيل التمسك بالسلطة. وهي إلى جانب ذلك تُعبّر عن استيائها من الحكومة الفيدرالية كون الأخيرة تلاحق مسؤولين سابقين وحاليين في الجبهة بتهم جنائية انتقائية، تتعلق بالفساد وارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المعارضين السياسيين، كما تشكو من ممارسة الحكومة الفيدرالية التمييز والتشريد بحق أبناء إقليم الجبهة في الإدارات الفيدرالية والإقليمية الأخرى.

 


إن تحرير النظام السياسي في مجتمع يُعاني من الاستقطاب العرقي لهو أمر خطير، ذلك لأن حريات التعبير الجديدة التي يتيحها الانفتاح يمكن أن تتحوّل بسهولة إلى ساحة تفتيش انتقائية لمجموعات عرقية معيّنة واستهدافها وإظهار المظالم المكبوتة. أضف إلى ذلك أنه لا توجد في إثيوبيا تقاليد تساعد في التحقّق من الشائعات والحقائق، مما يؤدي بالتالي إلى سرعة انتشار الخطب المثيرة للخوف بصورة أكبر من احتمالية حصولها في البلدان ذات التعددية الراسخة التي تتوفر فيها آليات التحقّق والتثبّت. بالطبع، إن انتشار مثل هذه الظاهرة مقترن في الغالب بوسائل التواصل الاجتماعي، ولكنه أيضا يعود إلى افتقار البلاد إلى المؤسسات والهياكل الموثوقة التي يمكن اللجوء إليها، وهي غير متوفرة في بلد كإثيوبيا تآكلت فيه المؤسسات بسبب سنوات الحكم الاستبدادي.


إضافة إلى ما سبق، يتوقع في النظام الفيدرالي العرقي أن تعمل الأحزاب والحركات السياسية على أسس عرقية، كما هو الحال في إثيوبيا، وبالتالي فالأحزاب في مثل هذا الوضع تسعى عادة إلى توسيع قاعدتها عن طريق الاستقطاب العرقي وليس عن طريق الاعتدال. وتترتب على ذلك عدة أمور: أولا، يَسمح لهم هذا النظام بإقناع ناخبيهم بأن هناك تهديدا وجوديا يُواجه مجموعتهم يستلزم منهم التصويت لحزبهم العرقي. ثانيا، التصويت العابر للأعراق غير ممكن في هكذا نظام، لأن ذلك يتطلب برنامجا سياسا أكثر تفصيلا ولا يراهن على إثارة الخوف. وهذا يُتيح بدوره الفرصة للأحزاب العرقية لتبرير أسباب وجودها في الساحة السياسية.

 

ولذلك نلاحظ أن قضايا السلطة المؤسسية وعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية تتقاطع مع الهوية العرقية في النظم الفيدرالية العرقية. ومن هنا تؤدي المظالم الاقتصادية والامتيازات الفعلية أو المفترضة لمجموعة عرقية معيّنة إلى تصاعد التوتر بين المجموعات.


ومن حسن الطالع أن جميع الأطراف الدولية الفاعلة تدعم التحوّل في إثيوبيا أو على الأقل تبدو راضية عما يحدث فيها، مما يعني أن التحوّل جاء في سياق دولي أكثر إيجابية مما كان عليه الوضع وقت أحداث يوغسلافيا، فالولايات المتحدة وقادة أوروبا أعربوا عن دعمهم للتحوّل في إثيوبيا. وكذلك الأمر بالنسبة للصين التي تقدم مليارات الدولارات من المنح والقروض لإثيوبيا باعتبارها أهم طرف اقتصادي فاعل في إثيوبيا يعمل في مجال تطوير البنية التحتية. إضافة إلى ما سبق، فآبي أحمد يحظى بتأييد واسع من الإثيوبيين بمختلف أعراقهم، وهي شعبية لم يتمكن أي زعيم آخر إنجازها في التاريخ الإثيوبي الحديث. ومع أن خلفية آبي أحمد السياسية قائمة على حزب عرقي، فإنه تجاوز ذلك في خطبه وممارسته للتأكيد على القومية الإثيوبية الجامعة بوصفها بلدا لجميع الأعراق على أساس مبادئ الدولة العادلة.

 


مع ذلك، لا يزال أمام آبي أحمد طريق طويل خصوصا في ظل ما تشهده إثيوبيا من عمليات نزوح داخلي وصراع عرقي غير مسبوق. وتشير الإحصاءات إلى نزوح أكثر من مليوني شخص جراء النزاعات العرقية، نزوح يتهم حزب جبهة تحرير شعب التجراي وأتباعه بالتورط فيه، بعد خسارتهم في الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية على البلاد.

 

إضافة إلى ذلك، تمثّل الممارسات التميزية التي تنتهجها الحكومات الإقليمية والمحلية ضد الأفراد والمجموعات التي تنتمي إلى أعراق أخرى مصدرا رئيسيا للشعور بالقلق. والأدهى من ذلك، أن المؤسسات الفيدرالية والإقليمية لم تقم بعد بعملية بناء القدرات التي تؤهلها لمعالجة تلك التحديات.


والحال كذلك، إن عملية تحقيق انتقال سلمي وديمقراطي ناجح تحتاج إلى أن تدعم الأطراف الدولية الفاعلة الإدارة الجديدة في إثيوبيا. الأهم من ذلك كله، يحتاج رئيس الوزراء إلى ضخ دماء جديدة في الأجهزة البيروقراطية -دماء شابة على قدر من الالتزام والاجتهاد والكفاءة- للقضاء على الفساد المستشري وعدم المساواة وثقافات التمييز وضعف الجودة والمحسوبية، التي كانت من سمات النظام السابق.

 

وبالتالي، لتجنب المزالق والعثرات التي تعرضت لها تجربة يوغسلافيا، يتعيّن على قادة إثيوبيا معالجة التوترات العرقية ونزع فتيلها مباشرة مع الانتباه إلى أن العديد من تلك التوترات تنشأ وتتصاعد بسبب التحريض. ومثلما حصل في حالة يوغسلافيا، فإن التطرف العرقي يأتي من قِبل المسؤولين غير الراضين عن التحوّل، فيسعون بالتالي لحشد التأييد العام من خلال انتهاج سياسات التخويف التي تتعامل مع المجموعات العرقية بوصفها كتلا محتملة لنشاطهم السياسي العرقي في المستقبل.


والحال كذلك، فلا مناص أمام الحكومة الفيدرالية والإقليمية لتخفيض حدة الإحساس بالظلم والحرمان -التي كانت تدفع في الماضي بعض الأطراف للمطالبة بالانفصال- سوى توفير المعاملة العادلة للجميع والتوزيع العادل للسلطة والموارد واستحداث إدارة فعّالة لأجهزة الدولة البيروقراطية على كافة المستويات.

 

إن تفكك دولة يوغسلافيا الاتحادية والحروب التي تلت ذلك توفر درسا تحذيريا لإثيوبيا مفاده: التحوّل في الدول الفيدرالية العرقية ذات الهويات المتعددة والمقسّمة ينطوي على مخاطر خاصّة.


في الخلاصة، يمكن القول إن التحوّل في إثيوبيا حتى الآن، تمكّن من تجنب المخاطر التي تعرضت لها تجربة يوغسلافيا. فهل بمقدور هذا التحوّل الاستمرار بهذه الوتيرة؟ ذلك أيضا أمر يتوقف -مرة أخرى- على قدرة هذا التحوّل الجاري في إثيوبيا في تجنّب أخطاء تجربة يوغسلافيا.

الجريدة الرسمية