رئيس التحرير
عصام كامل

التعايش مع الإلحاد.. التيارات التقدمية.. كل يغني على ليلاه.. توصيف الملحدين بالمرضى النفسيين "مشكلة".. والنقاش الأهم

فيتو

دائما ما ينظر إلى الإلحاد من وجهة نظر الأديان وخاصة "الإبراهيمية" من وجهة نظر دينية ونفسية ‏واجتماعية، وغالبا لا تناقش وسائل الإعلام في البلدان الإسلامية ظاهرة الإلحاد التي تزايدت بشدة خلال ‏السنوات الماضية إلا من خلال مجموعة من الخطباء والمشايخ المتخصصين في الشريعة الإسلامية.

 

‏ولكن ليس مألوفًا التعامل مع الإلحاد باعتباره موضوعًا للتفكير والنقاش ‏في اللغة العربية يُعرف بالإلحاد، الشخص الذي حاد عن الحق وطعن فيه، وأشرك بالله، وهو بالتأكيد ‏تعريف قديم وله دلالات أنشأها المؤمنون للحكم على الذين أنكروا الإله ورفضوا التسليم بالحاكمية.

 

الإلحاد واللادينية

 

ولكن ‏مع تطور الحياة والحداثة والعصرنة، لم يتطور المصطلح ولا التعريفات اللغوية له، ولهذا غالبا لا يفرق علماء الدين بين "الإلحاد" و"اللادينية" على سبيل المثال، مع أن هنين الموقفين ‏مختلفان، فالإلحاد هو إنكار قطعي للألوهية في حين أن اللادينية تعني ببساطة أن غير المتدين لا يزال ‏حائرا، ولا يملك إجابة نهائية حول ما تطرحه الأديان من عقائد وشرائع.

 

ولهذا يترك عقله للبحث عن ‏إجابة لما يطرحه على نفسه وعلى غيره من أسئلة دون أن يصل إلى حل، وفي الواقع الحديث، أصبح من الصعب فهم موضوع الإلحاد دون رؤية علمية موضوعية، وليس من ‏خلال الرؤى الدينية فقط، حتى لا يصبح الحل قائمًا على تجهيل المجتمع وتجنيده وتعبئته ضد مظاهر ‏الاختلاف.

 

وينعكس ذلك على زيادة الظاهرة وليس العكس كما هو الحال الآن، وانصرف الشباب أكثر إلى البحث بأنفسهم بعيدا عن حصرهم من المشايخ والإسلاميين في ‏زاوية الارتباك الديني والاضطراب النفسي والاجتماعي، والحكم على أفكارهم من خلال العاطفة الدينية ‏التي تُغيب التفكير والبحث العلمي الرصين من وجهة نظرهم. ‏

 

الإلحاد قديمًا


البحث في تاريخ الظاهرة، يجعلنا ندرك أن الإلحاد دائما كان متواجدًا بجانب الإيمان منذ العصور القديمة، ‏ما يعني أنه سيبقى إلى الأبد في المجتمعات البشرية بحسب أحمد عَصيد الكاتب والشاعر والناشط ‏الحقوقي المغربي.

 

ويرى عصيد أنها ظاهرة تزداد أكثر بين فئة القراء والمتعطشين إلى المعرفة التي ‏تحركهم وتدفعهم إلى السؤال الدائم الذي قد ينتهي بالبعض إلى "الإلحاد" على حد قوله.

 

ويعتبر عصيد أن الطريقة التي تناقش بها المؤتمرات الإسلامية ظاهرة الإلحاد، لا تخرج عن توصيات تبرز ‏قناعتين، الأولى هي أن الملحدين لا يعرفون شيئًا عن الدين، ولو علموا لكانوا انضموا إلى المؤمنين به، ‏وبالتالي من وجهة نظرهم أن الملحد ضعيف الإيمان، والثانية أن الملحدين يعانون من مشكلات نفسية ‏بسبب عدم اليقين بوجود إله وحياة بعد الموت.

 

ويؤكد الحقوقي المغربي أن هذه الرؤى تمثل حالة من التبسيط السطحي، وهو سبب عدم فهم المشكلة ‏المطروحة أصلا، فالملحدون لا يتجاهلون الدين، بل يتخذون مواقفهم من الإيمان بعد البحث المكثف في ‏الديانات المختلفة، ودراسة نصوصها ومقارنتها.

 

وبالتالي عندما يتم مناقشتهم من وجهة نظر الإسلام فقط فهذا يزيد الأزمة ولا يحلها، خاصة أن الكثيرين ‏من المشايخ والملتزمين الذين يدخلون مثل هذه المناظرات، يغلب عليهم طابع الشعبوية الدينية، ‏ولا يتمتعون بالمعرفة الكافية بالأديان الأخرى، وهذا يتسبب في زيادة قناعة الملحدين بما يعلنونه من ‏أفكار، ويضاعف ثقتهم بالمعرفة التي حصلوها والتي يسعون إلى تحصيلها في نفس السياق.

 

مرضى نفسيين

 

ويكشف الحقوقي المغربي، أن إصرار علماء الدين، والتيارات الدينية على توصيف الملحدين باعتبارهم ‏مرضى نفسيين مردود عليها عند الملحدين أيضا، والذين يرون الفتاوى التي تبعث على الخوف الشديد ‏من عذاب القبر، وتلك التي تحكىّ بالبكاء المرير على المنابر من الرعب الذي ينبغي الخوف منه من مصير ‏الناس بعد الموت إلى حد فقدان النوم بالنسبة للبعض، هو عندهم يمثل نوعًا من الأرق النفسي الذي ينبغي ‏البحث له عن علاج عند الأطباء المتخصصين.

 

ويضيف الباحث: "يرفض الملحدون هذه التصنيفات في التعامل معهم، خاصة أن هناك من يجعل من الدين ‏واحة للإرهاب والتفجير ويرتكب من خلاله كل أنواع الجرائم ضد المخالف له، ولديهم مئات الأمثلة لأناس ‏جعلوا من الدين أحد أسباب إهانة الآخر والحض على قتله وتشويهه".

 

ويرى عصيد أهمية مناقشة الملحد ــ لو هناك ضرورة لذلك ــ بطريقة علمية، فوضعه دائما على ‏‏"شازلونج" الطبيب النفسي، يجعله يلجأ في المقابل إلى المقارنة بين سلوكياته ومعتقداته وسلوك ‏المؤمنين بالله حد التطرف، لدرجة أنهم ينكرون أي مختلف عنهم ويسعون لإيذائه، وهذا له تعريفات ‏كثيرة في الطب النفسي، وبالتالي ستذهب القضية بعيدا عن مسارها الحقيقي.


يتفق إسلام مصطفى، الكاتب والباحث المصري في التراث الإسلامي مع المغربي أحمد عصيد، ويؤكد أن ‏تحليل مشكلة الإلحاد في البلاد العربية تتم دائمًا بعيدًا عن سببها الرئيسي والأساسي، ولذلك تلقى على ‏عاتق الطب النفسي.

 

ويستغرب مصطفى، ويؤكد أنه لم يجد إلى الآن أي كتاب نفسي يتحدث عن الإلحاد كمرض، أو حتى يذكره ‏من الأساس، ويضيف: فيما مضى كان يوصف المتطرف الذي يهاجم كنيسة بأنه مختل عقليًا، ولكن اتضح ‏الآن أن من يقوم بذلك متطرفون في الدين.

 

 

التراث البشري

 

ويعتبر "إسلام" أن مشكلة الإلحاد تكمن فيما أنتجه التراث البشري من نصوص، إما تفسيرية للنص ‏المقدس بعيدة تماما عن روح النص التي تدعو للتسامح والمحبة، أو بسبب بعض الأحكام الفقهية التي ‏تحض على الكراهية والتطرف، أو الأحاديث المنسوبة زورًا للنبي صلى الله عليه وسلم، والتي تخالف القرآن الكريم، أو ما ‏ورد في كتب السير والتراجم من روايات مسيئة للرسول الكريم.

 

ويكمل: مع كل هذا يخرج رجال دين يدافعون تارة عن تلك النصوص، ويعتبرون أن قارئها هو الذي أخطئ ‏الفهم، وأحيانا ينكرون وجودها أصلا ويمارسون نوعا من التضليل للعامة، لذا لا يجد البعض مفرًا من ترك ‏الدين برمته، ولا يعترف بوجود إله خالق عظيم للكون، ويمكن القول إن قضية الإلحاد تطرح تساؤلات قوية في البحث عن معنى الدولة المدنية الحديثة، وما هي ‏أساسها وأركانها بعدما تجاهلت هذه الأسئلة أغلب القوى السياسية بعد اندلاع ثورة 25 يناير.

 

وانتهى ‏الأمر إلى صراع غير مسبوق، حسمه الجيش والرئيس السيسي نزولا على رغبة الإرادة الشعبية في 30 ‏يونيو 2013، ولهذا تتشدد الآن بعض التيارات الفكرية والسياسية التقدمية التي انتشرت بشدة خلال السنوات الماضية، ‏في رفض هذه المناقشات بالأساس، ويطالبون في المقابل ببناء دولة عصرية تقف على الحياد بين جميع ‏الأطياف والقناعات.

 

ومن وجهة نظر هذه التيارات، لا يتعلق الأمن والاستقرار والرفاهية في المجتمعات بالإيمان والإلحاد، ‏فالعقائد الشخصية لسنا بحاجة إلى أي نقاش فيها، ويكفي أن يحترم كل منا الآخر في اختياراته، وما ‏يستحق أن يثار بالفعل في الواقع، هو الأسئلة التي تتعلق بالسلطة والنظام العام وتقاليد المجتمع، والبحث ‏الجاد عن حلول لمشاكلنا وصراعاتنا في الحياة الاجتماعية والسياسية وليس الأديان والمعتقدات.

 

وترى التيارات السياسية والفكرية التقدمية، أن موجة الإلحاد الحالية لا تهدد مصالح أحد، بل الظاهرة التي ‏ستهدد الناس وحرياتهم والأوطان أصلا، هي محاولة البعض لفرض وصاية دينية على المجتمع والدولة، ‏وبهذه الطريقة تتحول العقيدة الدينية ــ التي أصبحت في الدول الحديثة "قضية شخصية" ــ سوط مفزع ‏للحفاظ على النظام العام ومراقبته والسيطرة عليه، بما سيعيدنا في النهاية إلى حكم الإسلاميين ‏بالمستقبل، ولما لا، والمجتمع يتم تأهيله دائما، للتمسك بالوصاية الدينية عليه، والحجر على العقول ‏بداعي الإلحاد.

 

نقلًا عن العدد الورقي...

الجريدة الرسمية