رئيس التحرير
عصام كامل

الدب الروسي يستعيد عافيته الدولية على مذبح الربيع السوري.. بوتين يستغل لاءات أوباما في فرض سيناريو بقاء الاسد.. سد الفراغ بتنظيم القاعدة ورقة زعيم الكرملين لتخويف أمريكا وأوربا من ثوار سوريا

الرئيس الروسي فلاديمير
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

يأبى الرجل الثلجى المخابراتى فيلاديمير بوتين أن يهدأ قبل أن يستعيد الدب الروسى الذي شاخ - بعض الوقت - عافيته، ويغرس أنيابه المتنامية في جسد المنظومة الدولية المتهاوية، بفعل سياسة الرئيس باراك أوباما الانعزالية، التي تكرس مبدأ الهروب إلى الداخل الأمريكى بالابتعاد عن الانغماس في القضايا الكونية، خاصة تلك التي تشتعل في منطقة الشرق الأوسط، وهى العزلة التي كانت نظام دولة ومجتمعا في الولايات المتحدة حتى بداية الحرب العالمية الثانية.


وفيما بدت الأزمة السورية تراوح مكانها المشتعل بفعل الصراع العبثى الذي خلف ما يقرب من 100 ألف قتيل، يستمر المجتمع الدولى في تفنيد حسابات المكسب والخسارة داخل سيناريوهات الصراع، مع محاولات بائسة لتكريس أوضاع متوازنة على الأرض، ليس فيها رابح أو خاسر من القوى المتصارعة، مع استمرار نزيف الأرقام والبيانات التي تحصى الدماء والخسائر المادية للشعب السورى.

ومع استمرار المحاولات الرامية لخلق توازن عسكري بين القوات النظامية وشبيحة النظام وبين قوى المعارضة المسلحة، بدا السيناريو الروسى المدعوم من إيران والصين هو الأقرب إلى التنفيذ، تحت دعاوى متفاوتة تكرس بقاء بشار الأسد، وإدامة الصراع الدموى
حتى يتبين الشركاء الدوليون طريقا واضحا لإخماد نيرانه المشتعلة.

وجاءت تصريحات الرئيس الروسى حول قلق بلاده من حدوث فراغ سياسي في سوريا يشغله المتشددون إذا ترك الرئيس بشار الأسد السلطة حاليا، لتؤكد أن قبضة روسيا بدأت تستعيد عافيتها لتفرض سيناريو بقاء النظام العلوى، وإجبار المعارضة المسلحة على التفاوض بلا بدائل أو شروط مسبقة.
"سيناريو بوتين"
ولم تكن تلك التصريحات التي أطلقها بوتين في مؤتمر صحفى مشترك مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمس الجمعة، هي الأولى التي تكرس هذا السيناريو الذي بدا مقبولا على مضض من جانب الإدارة الأمريكية والشركاء الأوروبيين.

فقد أكد أنه "توجد فكرة عقلانية وحيدة أيدها الجميع في قمة مجموعة الثمانى التي عقدت هذا الأسبوع في أيرلندا الشمالية"، معتبرا أن الحل الوحيد هو مؤتمر سلام دولى لا يناقش مصير الأسد، على اعتبار أن مستقبل سوريا لا يجب أن يناقش خارجها.

ولا يخفى على المراقب مدى التعنت الروسى الذي ظهر في كل المحافل سواء داخل مجلس الأمن باستخدام الفيتو مدعوما بموقف صينى مؤيد للنظام السورى، أو رفض مجرد فكرة فرض منطقة حظر جوى على مناطق سورية، أو حتى تأمين ممرات إنسانية لإغاثة وإنقاذ المدنيين.

إلا أن الموقف الروسى المتشدد لم يكن ليمر دون ضوء أخضر أمريكى، ربما لأسباب داخلية في غالبها اقتصادية ، ناهيك عن محاولة الفكاك من عقدة التدخل في العراق للإطاحة بنظام صدام حسين، وهو الأمر الذي كلف واشنطن الكثير من المال والرجال والسمعة أيضا.

ولم يشأ " سيد الكرملين " الساعى بقوة لتثبيت أقدامه كزعيم لأمة روسية قوية تحاول استعادة أمجادها الإمبراطورية ، أن يظهر حجم مصالح بلاده في بقاء نظام بشار الأسد، وإنما تمكن من تغليف هذه المصالح بخطاب تعبوى ، يتوافق مع المزاج الدولى المذعور
من نفوذ متصاعد لمسلحين متشددين يدينون بالولاء لتنظيم القاعدة.
"فراغ سياسي"
فبوتين تطوع ليقدم شرحا حول مخاطر احتمال حدوث فراغ سياسي في سوريا في حال اتخاذ بعض القرارات الآن بخصوص تغيير الحكومة ، خاصة في حال الإصرار على رحيل بشار الأسد الذي سوف يؤدى من وجهة نظره لحدوث فراغ سياسي، سيملؤه ربما ما اسماه "المنظمات الإرهابية"، وهى الصفة التي تطلقها في الغالب روسيا وإيران على المقاتلين من المعارضة.

وتناسى بوتين تلك الجرائم التي يندى لها الجبين والتي اهتزت لها المشاعر الإنسانية في العالم، بسبب عمليات القصف العشوائى، وأعمال العنف الانتقامية التي ارتكبها النظام السورى وأعوانه ضد شعبه الأعزل على مدى أكثر من عامين.

وتكريسا لمبدأ وضع حد للربيع السورى الذي كاد أن يستنشق بعض نسمات الأمل بقرارات تسليح مقاتلى المعارضة، يحاول بوتين وضع حد لمساعى الرئيس الأمريكى باراك أوباما الرامية إلى تسليح معارضى الأسد، في الوقت الذي يدافع فيه عن إمدادات بلاده لحكومة سوريا بالسلاح قائلا " إنها قانونية تماما ".

ويبدو أن إصرار الرئيس الأمريكى باراك أوباما على تعزيز صفات الانعزالية والانزواء والتراجع إلى الداخل الذي يتواكب مع التردد والخوف من التورط في أي صراع خارج حدود بلاده، أغرى نظيره الروسى فيلاديمير بوتين على الاستمرار في الإقدام والتحدي
والإصرار والعناد وتكريس الحضور الروسى المخيف على الساحة الدولية كفاعل لا يمكن تجاوزه في القضايا المهمة.

ولعل هذا الإقدام والرغبة في تكريس الحضور القوى هو ما حدا بالرئيس الروسى، أن يتجاوز كل الأطراف التي ترفض أو مازالت تتردد في القبول بعقد المؤتمر الدولى " جينيف 2"، ويدعو إلى الضغط على كل الأطراف المتصارعة للجلوس على مائدة التفاوض ووقف العنف وإيجاد صيغ مقبولة للبناء المستقبلى لدولتهم وتوفير الأمن لكل الجماعات العرقية والدينية، وفقا للسيناريو الذي أعده مسبقا وهو تكريس بقاء بشار الأسد.
"لاءات اوباما"
ولم يكن بوتين يحتاج لأكثر من "لاءات " الرئيس أوباما، التي أطلقها خلال مقابلة تليفزيونية، حتى يمضى قدما في فرض إرادة روسيا في الأزمة السورية، وهي "لا" لإغلاق المجال الجوي للطائرات الحربية السورية عبر القوة الجوية التي تستلزم مشاركة حلف
شمال الأطلسي (ناتو)، و"لا" لإقامة ممر إنساني لإنقاذ مدنيين في مناطق تسيطر عليها المعارضة السورية، و"لا" لدعم السنة في الصراع الدائر الذي دخل فيه الشيعة على الخط طائفيا سواء بعناصر من ميليشيا " حزب الله" أو المجموعات المسلحة الشيعية
العراقية والإيرانية.

حتى إمداد المعارضة السورية بالأسلحة المتطورة يلاقي "لا" من أوباما، حيث أعلن رفضه في تصريحات منشورة قول معارضيه في الكونجرس، إن تسليح المعارضة المعتدلة يغير مسار النزاع ويحبط خطط المعارضة المتطرفة.

فيما أكد أوباما إن توفير الأسلحة المضادة للمروحيات أو الدبابات لن يغير مسار النزاع ومن يقُل غير ذلك "لا يتسم بالواقعية في تحليل الوضع"، وإن من يتحدث بلغة الحظر الجوي وممرات إنسانية يتحدث بلغة " الحلول المبسطة ".

وليس ثمة شك في أن انتصار بوتين بفرض السيناريو القاتم الذي يحتل فيه الأسد واجهة المشهد، منتصرا بالبقاء على " عرش الجماجم" التي ستظل تطارده، سوف يمنح لهذا النظام الدموى مهلة لالتقاط الأنفاس وارتكاب المزيد من الأخطاء القاتلة في حق بلاده
وشعبه.
"دماء غزيرة"
إلا أن الربيع السورى الذي ارتوت أشجاره بدماء غزيرة، لن يغادر بلاده رغم قسوة الموقف الروسى الداعم لبشار الأسد ، والذي كلله بيان قمة الثماني الباهت،عندما ساوى بين القاتل والضحية، خاصة بعد مجزرة القصير، ونظيرتها المرتقبة في حلب. فعلى الرغم من مؤشرات قمة الثماني العلنية ، إلا أن هناك قرارات غير معلنة تؤكد عدم السماح بتكريس انتصارات قوات الأسد وأنصارها من إيران و"حزب الله"، وبقاء إمكانية تحجيمها بدلًا من استمرار تصاعدها، وهو ما جرت ترجمته عمليا في إعلان هيئة الأركان
في الجيش السورى الحر تسلمها مجموعة من الأسلحة والذخائر كان قد طلبها رئيس الهيئة اللواء سليم إدريس بقوائم محددة من بعض الدول الداعمة للشعب السورى.

كما أن تأكيدات رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أنه " لا يمكن تخيّل سوريا يستمر فيها حكم الرجل الذي ارتكب مثل تلك الأشياء المريعة بحق شعبه "، تؤشر إلى استمرار خلاف الدول الغربية مع روسيا في شأن استمرار بشار الأسد، وهو ما أعلنه قادة
روس بأنهم ليسوا "في غرام مع الأسد"، وليسوا متمسكين ببقائه هو في السلطة لكنهم متمسكون بالنظام.

وسواء انتصر الرئيس الروسى على الدول الغربية وأمريكا ومن يساند الربيع السورى في نهاية المطاف، أو نجحت تلك الدول في فرض إرادتها على المدى البعيد، إلا أن مواقف بوتين المتصلبة والجريئة، تؤكد محاولاته التي لن تتوقف لكسر شوكة الغرب وخاصة أمريكا، واستعادة أمجاد الدب الروسى، حتى وإن عادت أنيابه المخيفة مخضبة بدماء الأبرياء.
الجريدة الرسمية