رئيس التحرير
عصام كامل

كتاب الدين

فيتو

كنا صغارا عندما دق الجرس، سحب صديقى حقيبته الصغيرة وارتحل، غاب عن عينى بينما جلست أنا بمفردى وسط الرفاق لا أعلم فيهم غير مَنْ كان هنا ثم مضى، مضت الدقائق ثقيلة مهمومة.. فى كل النواحى بصرى ذاغ ، وعند الباب استقر .

وكأنى أتعلق بالأمل أردت أن أصرخ أين راح صديق طفولتى أين ذهبتم بمن كان يقاسمنى الضحكة البريئة حين كنا نختبئ من أمى خلف الباب، وهى تبحث عن الشقاوة المحمومة فى أعيننا الصغيرة، الكل من حولى هنا يصخب ويلعب، يلهو ويمرح، وقليل من الأطفال من يبكى فراق أمه أو أبيه، إلا أنا قلبى ارتجف خوفا حين فقدت جوار صديقى، حين انتقل.
دخل المعلم بوجه جامد محفور عليه علامات قسوة لم أر لها مثيلا، أغلق الباب بعنف، فارتعدت.. ألقى على المنضدة الصغيرة كتابا ودفترا، ونظر بعين القسوة يتفحص الصغار أمامه، نطق كلمتين "أخرجوا الكتب" سألت مَنْ أتى وجلس جوارى: "أى كتب؟!"، قال زميلى وكفه الرقيق يفتش الحقيبة، أخرج كتاب "الدين".
لاحظ المعلم ارتباكى، اقترب منى دون أن يبدل وجهه أو ملامح القسوة فى عينيه، وبعنف دق المنضدة أمامى، وسألنى " هل نسيت الكتاب؟" دون إرادتى بكيت، زادت قسوته واحتد صوته، وصرخ فى وجهى: "هنا مدرسة، ولتنس حضن أمك يا صغير".. خفض من صوته والعصا الغليظة فى يديه، أجهدت نفسى فى التزام الصمت.
عاد وكرر سؤاله، هل نسيت الكتاب، بسرعة قلت "لا"، فاجأنى إذا لماذا البكاء؟، قلت له صديقى "عماد" كان هنا ثم خرج ولا أعرف ما السبب، أجاب فى برود، عليك أن تعتاد تركه خلال هذا الوقت من كل "أسبوع" فنحن فى حصة "الدين" وهو مسيحى، لا يجوز له حضور الدرس، كما أنك لا يمكن أن ترافقه فى حضور دروسه.
سنوات عمرى الست لم تكن كافية لأفهم معنى الكلمة، تساءلت ماذا تقصد أنه مسيحى؟! سخر منى معلمى، وقال مسيحى!! أعنى أنه يخالفك الديانة، وأنه يذهب للكنيسة وتذهب أنت للمسجد، كما أنه ليس لك أن تصادقه، وعليك الاحتراس من النصارى، لأنهم لا يؤمنون، ونسائهم سافرات، ورجالهم بغير ذمة، ولا يحل لك صداقتهم، ولا العيش معهم فى منزل واحد، كما أن أعيادهم عليك حرام، وأكلهم حرام، وعيشتهم حرام، فهم ملوثون يشربون الخمور، ويأكلون الخنزير، وغير مأمونين، ومن يتقرب منهم مصيره النار.
انتابنى الخوف والهلع، وبات فى حلقى غصة من صديقى، وصورة معلمى تملكتنى، أخافتنى، أرهبتنى، نظراته القاسية، وهو يفسر النار ويشبه العذاب بذوبان الشحم فى الماء، وشواء اللحم فى النار.
عاد صديقى بغير ابتسامته المعهودة، جلس بعيدا عنى، ودون كلمة واحدة فتح كل منا حقيبته الصغيرة، وأخرج كتابه، ورفعت فى وجهه، ورفع فى وجهى "كتاب الدين".
الجريدة الرسمية