رئيس التحرير
عصام كامل

فلسطين بين القرى المدمرة والمدن المهودة


يُسابق الإسرائيليون الزمن في طمس الهوية العربية والإسلامية عن كل المعالم الفلسطينية، ويصارعون من أجل إخفاء كل ما يدل على الوجود العربى والإسلامي فى فلسطين، لا في القدس وحدها بل فى عموم الأرض الفلسطينية كلها، فى محاولاتٍ محمومةٍ كاذبة وزائفة وباطلة لتأكيد الادعاءات اليهودية بأحقيتهم التاريخية القديمة فى الأرض المقدسة فلسطين، بدعوى أنها الأرض الموعودة التى اقتطعها الرب لهم ولأنبيائهم ولبنى إسرائيل من بعدهم، وأنه لا يجوز لأحدٍ غيرهم أن يدعي الحق فيها، وإن سكنوا فيها لسنواتٍ طويلة، أو عمروا فيها ردحًا من الزمن، أو كانت لهم بقايا وآثار تركوها خلفهم، فهى بزعمهم آثار مراحل عابرة، وعصور طارئة، تشكلت نتيجة الغزو والحروب، ونشطت إبان السبى والغياب.

هذا ما يؤمن به اليهود ويعتقدون بصحته ويعملون من أجله، إذ يعتقدون أنهم الأصل، وأنهم أصحاب الأرض وملاكها القدامى، ويعززون ادعاءاتهم بأساطير وخرافاتٍ وحكايا لا يؤمن بها غيرهم، ولا يصدقها سواهم، ويصرون على غيرهم ليصدقوهم، ويؤمنوا بخرافاتهم، ويعملوا من أجل تحقيقها، إذ أن فى وجودهم دولة على أرض فلسطين خلاص البشرية، وعودة المسيح، وهو ما آمن به المسيحيون الجدد، فأيدوا المطالب الإسرائيلية بأن تكون أرض فلسطين كلها أرضًا يهودية الديانة، فلا يسكنها غير اليهود، ولا يوجد فيها ما يدل على غيرهم حاضرًا وماضيًا، فهذا "وعد الله" لهم بأن يعودا بعد تيه، ويستقروا بعد ضياع، وترتفع لهم راية بعد طول نكوس، ويلتئم شملهم بعد سنواتٍ من السبى والتشرد.

يدَّعى الإسرائيليون أن كل المعالم الفلسطينية هى إسرائيليةٌ فى أصلها، ولها أسماءٌ يهودية محفوظة، وهى مرتبطة بأحداثٍ وتواريخ، ومناسباتٍ وذكريات، لذا يجب استعادة الأسماء التيى طمست، أو تلك التى نسيت وبدلت نتيجة الغياب، فعمدوا إلى تغييرها فى مناهجهم الدراسية، وثبتوها فى خرائطهم الجغرافية، وعلقوا الأسماء اليهودية على مداخل الشوارع والطرقات، وأصدروا طوابع وملصقاتٍ وصور تحمل الأسماء اليهودية للمدن الفلسطينية، كما أطلقوا أسماءً يهودية وتلمودية على الشوارع الجديدة والساحات المستحدثة والمستوطنات المنشأة وغيرها، في الوقت الذى باشرت فيه آلياتهم بتدمير المعالم العربية الفلسطينية، فهدمت الدور والمساجد والمدارس والتكيات والمقامات، وأزالت المقابر والأسواق والساحات، وشطبت من المناهج الدراسية والخرائط الجغرافية كل ما يدل على العرب، اسمًا أو حضارةً أو دينًا، وبدأت البلديات الإسرائيلية فى إصدار أسماء يهودية تاريخية ومعاصرة على الكثير من الشوارع والطرق والبلدات الفلسطينية، فظهرت أسماء بنيامين وشلومو وعيزرا وكوهين وأبراهام وغيرها من أسماء أعلامهم وقادتهم.

ولكن المساعى الإسرائيلية الدءوبة تقف عاجزة أمام الذاكرة العربية والفلسطينية التي لا تشيخ، فلا تقوى على مواجهة عقول الأطفال، وأدمغة الشيوخ والرجال، وذاكرة العجائز والنساء، ممن لا ينسون أرضهم، ولا يستبدلون أسماءها بأخرى يهودية، وإن حاول الإسرائيليون تكريسها وفرضها بالقوة أو بالأمر الواقع، فلا يوجد طفلٌ فلسطينى ولد بعد النكبة بعشرات السنين، ممن لم يزوروا بلداتهم، ولم يعرفوا قراهم، إلا ويعرف بلدته الأصلية التى ينتسب إليها ووالداه، فإن ذكر اسمه أمام جمعٍ فإنه يتبعه باسم بلدته الأصلية، فهذا من صفوريا وذاك من حيفا، وغيره من اللد أو الرملة، أو المسمية أو المجدل، كما غيرهم كثير من طبريا وصفد ومن حمامة وأسدود وعكا والجليل.

أما فى مخيمات اللجوء وساحات الشتات، فإن البلدات الفلسطينية تظهر فى أقوى أشكالها، وأبهى صورها، إذ يطلق الفلسطينيون على تجمعاتهم أسماء بلداتهم الأصلية وإن دمرت، فتجد أحياء الصفافرة والصفدية والمجادلة واليافوية والطيراوية وغيرهم، ممن يتنافسون على البقاء، ويتمايزون فى الصفات والخلال، ويعتزون بالانتماء والانتساب، ومازالت كل بلدةٍ تشتهر بطعامها، وتتميز بحلوياتها، فلا تكاد تخلو وليمة فلسطينية من طعامٍ يميز بلدة أصحابها، وتفقد الوليمة قيمتها إذا غاب عنها الطعام الذى يميز أهل البلدة، ولعل أصحاب الوليمة يغضبون إذا لم يأكل المدعون من طعام بلدتهم المميز.

 تتطلع الأجيال الفلسطينية التى لم ترَ بلداتها وقراها، إلى جمع ما أمكنها من معلوماتٍ عن بلداتها الأصلية، معالمها الجغرافية وحدودها، ومساحتها وما اشتهرت به من زراعةٍ أو حرفة، وما تميزت به من مصنوعاتٍ وأعمالٍ يدوية، وأبرز ما كان فيها من ساحاتٍ وحدائق، وعدد سكانها، وأسماء العائلات التي كانت تسكنها، والجهات التي لجأوا إليها، وغير ذلك من تفاصيل المعلومات الدقيقة، التى تسهم في وصل ما انقطع، وربط حاضر الأجيال بماضى من سبقهم، ولهذا يقومون بتشكيل روابط بلدية، ينتسب إليها جميع أبناء البلدة، كلٌ يشارك بالقدر الذى يستطيع ويملك، بما يسهم فى الحفاظ على بقايا الذاكرة، وبما يجمع شتات الذكريات المتناثرة، وبما يمكنهم من مواجهة الغزو الإسرائيلى المحموم الخبيث الساعى بمنهجيةٍ متواصلة، لتهويد كل شىء فى الأرض العربية الفلسطينية.

يدرك الإسرائيليون جميعًا، الوافدين إلى فلسطين، المهاجرين إليها، والقادمين والمستوطنين فيها، والمنبتين عنها تاريخياً وجغرافيا، الغربيين الأجانب، الشذاذ المنحرفين، الضالين الغاوين، المغتصبين المحتلين، أنهم أضعف من الفلسطينيين والعرب، وأنهم أقل حيلةً منهم، وأنهم أوهى حجةً ودليلاً، وأنهم لا قبل لهم بمواجهة يقين الفلسطينيين وعقيدتهم القائمة على الإسلام الدين القويم، وأنهم مهما حاولوا تزييف التاريخ وتغيير الواقع، فإنهم لن ينجحوا فى شطب الهوية العربية والإسلامية عن فلسطين، التى ستبقى هويتها حاضرة دومًا، تنهض قويةً  في كل الأوقات، كصيحات الله أكبر تهزهم هزاً، وتؤزهم أزًا، تنتصب شامخةً فى الشجر والحجر، وتظهر بجلاء في اللسان والبيان، وتسمو بقدسية فى المسجد والمدرسة، ومهما اعتقد اليهود أنهم نجحوا، فإن بنيانهم سيخر عليهم من القواعد، وستنهار دعواتهم، وستذوب معالمهم الزائفة، وستختفى آثارهم الباطلة.



الجريدة الرسمية