المفتي السابق يتحدث عن الأدب مع الله والنفس والناس
قال الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق إن روح الشريعة الأدب مع الله ومع النفس ومع الناس، وافتقد المسلمون كثيرًا من الأدب، وصارت عندهم العبادة عادة، وتخلوا عن القيم والأخلاق التي قال عنها رسول الله ﷺ: (إِنَّـمَا بُعِثْتُ لأُتَـمِّـمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ) وهو الذي وصفه ربه فقـال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
وأوضح المفتي السابق أن رسول الله ﷺ تركنا وبين لنا أصول الأدب في أحاديث أربعة: أولها: (مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ) (موطأ مالك)، وثانيها: (لا تغضَبْ ولَكَ الجَنَّة) وثالثها: (لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتى يُحِبَّ لأًّخِيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) ورابعها: (مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فليَقلْ خيرًا أو ليَصمُت) يقول أبو زيد القيرواني رضي الله تعالى عنه وهو من أئمة المالكية: هذه الأربع هي أصول الأدبهذه الأربعة هي أسس الخير والأدب، إذا تخلق بها المسلم كان مسلمًا حقًّا، نرى فيها رسول الله ﷺ قد ربط الأدب بالعقيدة وقد فعَّل العقيدة في حياتنا وفي واقعنا وسلوكنا اليومي، وفعَّل العقيدة في نفوسنا وداخلنا حتى نسيطر على أنفسنا لله رب العالمين.
وتابع: انظر إلى نفسك وقد استغنيتَ عن اللغو وفضول الكلام، وقد استغنيت عن تضييع الأوقات، وقد استغنيت عن كل فعل باطل ربط رسول الله ﷺ هذا بحسن الإسلام - على الرغم من أنه من حسن الحياة والمعيشة - فلم يقل من حسن حياة أحدكم أو معاش أحدكم بل جعله من أصل الدين لأن هذا المؤَدَّب سيكون قد توكل على الله وهذا المؤَدَّب سيكون في قلبه رضا لله وعن الله (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ) وهذا أدبٌ عالٍ، لا نراه في حياتنا حيث يتصدر كل إنسان في غير موضعه وعمله، فيهرف بما لا يعرف، ويتكلم بما لا يتقن، وكل ذلك محسوب عليه لا له، قال رسول الله ﷺ: (كَلامُ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لا لَهُ إِلا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرُ الله).
وأستطرد قائلا: إذا أنت فعلت هذا فإن الناس لا يتركونك، ولكن يستفزونك ليخرجوك عن ذلك الخُلق، فيأتي الحديث الثاني، ويربط عدم الغضب بالجنة، والغضب حجاب وحائل على ذهن الإنسان يمنعه من التفكر الصحيح ومن التدبر، ومن اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، والغضب يجعل الإنسان يتهور في حياته، والغضب يجعل الإنسان غير راض عن الله، وربنا سبحانه وتعالى يستحق منا الرضا، فهو الذي خلق وهو الذي أمر وهو الذي من أسمائه الصبور، والله سبحانه وتعالى يعلمنا على لسان نبينا بل والأنبياء من قبله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)، هذا الهدوء النفسي يجعلك أكثر قدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب والتصرف السليم الصحيح في الوقت المَليح فالأدب كما ترون يكون مع النفس، ويكون مع الله سبحانه وتعالى، ويكون مع الخلق، لكنك لا تستطيع أن تكون مؤدبًا مع الله إلا إذا وصلت إلى الرضا والتسليم، ووصلت إلى التوكل الحق عليه سبحانه، والرضا والتسليم بقضائه وقدره، والتوكل عليه فيما يكون من الأيام لا يكون إذا غضبت؛ لأنك تكون قد نسيت ربك، ولأنك تكون في حالة قد رأيت فيها نفسك، ولأنك لا تستطيع حينئذ أن تسيطر عليها ولا أن تأمرها بما أمرك الله به، ولا أن تقف عند حدود ما نهاك الله عنه، (لا تغضَبْ) ليس معناه ألا يرد الغضب على قلبك، إنما معناه ألا يسيطر الغضب عليك (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ) -الذي يصرع الناس بجسده القوي وبنيانه المتين- (إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) (البخاري) لا يكون في كون الله إلا ما أراد، فعلام تغضب؟! هذا الذي غضبت منه- أوْ لَهُ- إنما هو بقدر الله.. ويأتي الحديث الثالث حتى تتعدى بخيرك إلى الآخرين، وهذه قد افتقدناها فقامت في قلوبنا أنانية، نرى أنفسنا ولا نرى الناس، ولا يهمنا أن نحمل في قلوبنا همهم، ولا يهمنا أن نحمل في قلوبنا مصالحهم، وهذه مصيبة كبرى، تفتت الأمة التي قال فيها رسول الله ﷺ: (لينوا في أيدي إخوانكم) (أحمد) ، والتي أمرنا حينما نقوم إلى الصلاة لرب العالمين أن نصطف صفًّا واحدًا يشير إلى قلب واحد ويأتي الحديث الرابع ليتمم منابع الخير وأساس الأدب، لنخلي ألسنتنا وأقوالنا وأفعالنا من الكذب والغيبة والنميمة والبهتان وشهادة الزور ومن اللغو، إذن فقد أصبحت مُعتَمَدًا للخير، تَعَوَّدَ الناسُ أنك لا تقول إلا حقًّا، تَعَوَدَ الناسُ أنك لا تقول الباطل، تَعَّوَدَ الناسُ أنك إذا تكلمت فإنما تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر، تَعَّوَدَ الناسُ أنك إنما تأمر بالخير: (وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [الحج:77]. أحاديث أربعة يجعلها لنا رسول الله ﷺ نبراسًا في طريقنا إلى الله، وفي طريقنا إلى الحق، وفي طريقنا في الدنيا، فاجعلوها نبراسًا لكم، ودربوا أنفسكم عليها.