عبد العزيز البشرى يتذكر مجريات القدر فى رمضان
فى كتابه "قطوف "كتب الكاتب الساخر الشيخ عبد العزيز البشرى فصلا طريفا عن شهر رمضان قال فيه:
أدركنا رمضان وأهل مصر يستصبحون بالشمع ، إلى أن طغى عليه اتخاذ الكيروسين ، ثم نحن هؤلاء اليوم نستضئ بالكيروسين وبالغاز وبالكهرباء ،فكيف كان حظ رمضان من الأضواء والأنوار فى ذلك الزمان ، وكيف كان حظه منها الآن.
لقد كانت القاهرة والإسكندرية وسواهما من الحواضر الكبرى إذا جن الليل فى رمضان كتلة من النور ، النور فى أفنية الدور ، وفى غرفها وحجراتها وعلى رءوس الأبواب ، ثم فى الشوارع من المصابيح العامة ، ومن المصابيح التى يضطرب بها الأولاد صبية وصبايا ، وأولئك يغنون "يا ورد فى السوق وباعوك" وهؤلاء يغنين "وحوى يا وحوى ..اياحة ، بنت السلطان إياحة ، لابسة القفطان ..الخ".
ولا تنس أن السيدات كن إذا برزن إلى الطريق فى رمضان لزيارة الأهل والصديقات سعين وبين أيديهن الخدم يحملون المصابيح الكبيرة يتألق كل منها بطائفة من الشموع ، فتزيد الطريق نورا على نور. أما نوافذ المناظر فمفتحة تنبعث منها نور المصابيح، كما ينبعث منها النور الأعظم .. أعنى ترتيل القرآن الكريم ، ولا تنس حظ المساجد الكبيرة ـــ على وجه خاص ــ من ذلك النور والإشراق فى طرفى الليل جميعا ، ففى صدر الليل صلاة العشاء ، ثم صلاة التراويح ، ثم تلك الأناشيد البديعة التى يتغنى بها المؤذنون فرادى وجماعات.
فإذا كان السحر فتحت أبواب المساجد وأضيئت فيها الثريات ، وأقبل عليها الناس بعد الفراغ من سحورهم ، فانتظموا فى حلق يستمعون إلى دروس العلماء فى تفسير كتاب الله ، وفى حديث رسول الله وفى أحكام الشرع الحكيم ، حتى إذا قال العلماء "والله أعلم" أذانا بختام الدرس ، أسرع الناس فانتظموا صفوفا ، مولين وجوههم شطر الدكة فى بهرة المسجد ، ليسمعوا صوت أشهر قارئ فى الحى.
وناهيك بالشيخ حنفى برعى فى مسجد فاطمة النبوية ، وبالشيخ أحمد ندا فى مسجد السيدة زينب ،رضى الله عن السدتين الكريمتين ، ورحم الشيخين العظيمين . لكن ما يؤلمنى هذا العام أن يجئ علينا فى رمضان عواء الصفارة ايذانا بمقدم الغارة ، وهذا ما صنعته الحرب ( يقصد الحرب العالمية الثانية بين الحلفاء والمحور ).،فلا المقاهى مضاءة ولا الصالونات على الاستعداد ولا الشوارع مليئة بالبشر .
غير أننا لا ينبغى أن نبتئس بمجرى القدر فى هذا الشهر الكريم ، فهو شهر الصيام ، والصيام كف النفس عن الطعام والشراب ، وفى ذلك امتحان للمؤمنين لمبلغ جهدهم واحتمالهم فى طاعة الله وتعويدهم الصبر على المشاق فى هذه الحياة ، فلا يفسدهم طول الترف والتقلب فى المناعم والاسترسال فى معاطاة اللذائذ . فإن هذا العيش أدعى إلى تكسر النفوس واسترخاء العزائم وعدم القدرة على احتمال الشدائد.
"لمة العيلة والمسحراتى".. أبرز علامات رمضان عند نجوم زمان
ونحن زيادة على الشرف والاستقلال والحرية قد نلق المشاق ، وأكثر من المشاق ، فمن الخير لنا لو تدبرنا ، أن نمرن النفس من الآن فى خوض المشاق ومعاناة الشدائد فى الحروب حتى إذا كان يوم الردع لا أذن الله ، لاقيناه فى رشد وعزم وصدق يقين.