رئيس التحرير
عصام كامل

"ذكريات وتأملات وتساؤلات" عن سياسات النشر بكتاب "رسائل كالفينو"!.

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

يشكل الناشرون جزءا حيويا في البنية الأساسية للثقافة حتى يحق وصفهم "بملح الأرض الثقافية" وتلمح العين كتبا تصدر من حين لآخر في الغرب عن هذا العالم وسياسات النشر فيما يحق التساؤل: "هل هناك سياسات للنشر في مرحلة مابعد ثورة يناير بمصر سواء على مستوى دور النشر العامة أو الخاصة؟".


ليست القضية مجرد تغيير أسماء ومسميات مثل تغيير اسم سلسلة مكتبة الأسرة لتكون مكتبة الثورة على سبيل المثال بقدر ماهي سياسات جديدة للنشر تعبر عن مرحلة جديدة في مصر وحتى الآن لم تعلن مثل هذه السياسات.. قضايا كثيرة يثيرها هذا الكتاب الجديد لرسائل الكاتب الإيطالي الراحل ايتالو كالفينو بقدر مايستمطر الكثير من الذكريات في عالم الكتاب والنشر.

وفي كتاب "ايتالو كالفينو: رسائل 1941-1985" يتجلى اهتمامه الكبير بسياسات النشر في مرحلة مابعد سقوط الفاشية وانهيار نظام موسوليني، وبحيث تصدر كتب جديدة تعبر بصدق عن الشارع الايطالي في مرحلة جديدة.

فعلى مدى سنوات طويلة عمل ايتالو كالفينو في دار نشر "اينايودي" اليسارية في إيطاليا فيما كانت هذه الدار التي أسست في تورينو عام 1933 تعد من أكثر دور النشر الإيطالية نجاحا وعرفت إصدارتها من الكتب ذات الأغلفة اللينة البيضاء طريقها لكل بيت قاريء في هذا البلد.

واللافت من باب المقارنة أن أغلب دور النشر اليسارية في مصر لم تحقق نجاحا بالمعني التجاري على غرار مافعلنه مثلا دار نشر "اينايودي" الإيطالية وكأنها عجزت عن تحقيق معادلة الفكر والجاذبية معا أو كأن بعضها كان يظن أن الفكر الجاد يعني التجهم وان اليسار يخاصم الجاذبية.

والغريب أن جوليو اينايودي صاحب دار نشر "اينايودي" اليسارية كانت شخصيته ارستقراطية بصورة لافتة ولم تخل تصرفاته من رعونة غير أنه تميز بشدة في انتقاء العاملين بدار النشر بحيث كانوا من المؤمنين بأهمية الكتاب ومن اصحاب الاستقامة الاخلاقية والاستعداد المنضبط لتنفيذ سياسات النشر بهذه الدار اليسارية.

وفي بلد مثل مصر ربما تستحق مكتبة مثل مكتبة "البابي الحلبي" معالجة روائية منذ أن اسس السوري أحمد الحلبي عام 1859 مطبعة باسم "الميمنية" قبالة الجامع الأزهر لتكون أول مطبعة ومكتبة خاصة تقام في مصر.

لكن حلم أحمد الحلبي كان مهددا بالموت بعد رحيله لأنه لم ينجب ومن ثم فقد أرسل لأبناء اخوته في حي الباب بحلب للمجيء لمصر المحروسة والعمل معه في المطبعة والمكتبة وبالفعل جاء ثلاثة منهم هم "مصطفى وعيسى وبكري" إلى مصر وحصلوا على شهادات "العالمية" من الأزهر الشريف.

وتقول قصة هذه المكتبة أن الأشقاء الثلاثة اختلفوا وقام عيسى بتأسيس مكتبة أخرى حملت اسم "دار إحياء الكتب العربية" في حي الحسين فيما قام مصطفى البابي الحلبي بتوسيع الدار الأصلية للنشر وتغيير اسمها إلى "مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي".

والمكتبة الواقعة في منطقة "سوق الخضار" بالأزهر لافتة رغم الزحام والضجيج خارجها بعناوين إصداراتها مثل:"قرة العيون لشرح نظر ابن ميمون في النكاح الشرعي وآدابه" و"الطوالع الحدسية للرجال والنساء لأبي معشر الفلكي فيما كانت منذ بداياتها تصدر طبعات من "ألف ليلة وليلة" مطبوعة بطريقة الجمع اليدوي للحروف.

غير أن دار الحلبي توقفت عن توزيع ألف ليلة وليلة بقرار من الأزهر عام 1968 فيما توقفت أيضا في العام ذاته عن طباعة كتاب "عودة الشيخ لصباه" للإمام النفزاوي ومضت قي إصداراتها من كتب الفقه والتفاسير مطبوعة بطريقة الجمع اليدوي.

وتعتمد المكتبة حاليا على بيع الكتب لطلاب الأزهر الذين تلمحهم العين وهم ينقبون بين الأرفف بحثا عن كتب معينة بينما تخضع كتبها في الفقه والتفاسير لمراجعة بعض علماء الأزهر.

أما عيسى الذي ترك "الميمنية" فقد أسس دارا للنشر أقرب لمؤسسة ثقافية في خان جعفر بالحسين تضمنت مطبعة ودار سينما بل وفندق وجمعت ما بين طباعة الكتب وعرض الأفلام السينمائية والأنشطة السياحية بصورة لو عرفها الكاتب الراحل ايتالو كالفينو لكتب عنها من باب اهتمامه بكل ماهو لافت في عالم النشر.

وكان ايتالو كالفينو وهو شاب في الرابعة والعشرين من عمره أحد أفراد تلك الكوكبة التي عملت في دار نشر اينايودي ومن بينها القاص والشاعر سيزار بافيزي الذي شغل منصب رئيس التحرير التنفيذي في هذه الدار اليسارية والقاصة ناتاليا جينزبورج.

وخلافا لواقع الحال في دور النشر الغربية لا تعرف دور النشر المصرية الآن على الأقل أسماء كبيرة لمبدعين في عالم الكلمة يعملون في هذا المجال وإن كانت مكتبة نهضة مصر لآل السحارتبقى علامة تومئ لاسم الأديب الراحل عبد الحميد جودة السحار.

ومن الطريف أنه عندما قام الروائي المصري عبده جبير بتأسيس دار نشر في عام 1984 سرعان ما أفلست وأغلقت أبوابها بعد نشر مجلدين من مجلة "الأستاذ" لعبد الله النديم فيما تنزع مكتبة "الأنجلو" التي أسست في القاهرة منذ عام 1928 للتخصص في الكتب العلمية والعلوم الإنسانية المتخصصة بصورة تلبي متطلبات طلاب الجامعات.

وفيما يتضمن الكتاب الجديد لايتالو كالفينو الصادر بالإنجليزية رسائله لأدباء وكتاب كبار مثل البرتو مورافيا وزوجته الزا مورانتي وناتاليا جينزبورج فضلا عن ذكريات لقائه في كوبا مع المناضل الأممي تشي جيفارا فإنها يتوقف عند واقعة انتحار سيزار بافيزي وهو في الثانية والأربعين من عمره وفي اوج شهرته الأدبية وانعكاسات تلك الواقعة المآساوية على دار النشر.

وللذكريات شأنها مع مكتبة منشأة المعارف بالإسكندرية حيث يحتفظ صاحبها ومؤسسها جلال حزي المنحدر من أجداد شوام بألبوم جمع فيه كلمات مشاهير الأدباء والساسة والمثقفين الذين زاروا مكتبته ومن بينهم عباس محمود العقاد والدكتور ثروت عكاشة وصلاح طاهر وثروت أباظة.

وكذلك الحال في مكتبة النهضة المصرية بقلب القاهرة حيث الاحتماء بالماضي التليد والذكريات العزيزة التي تعود لأكثر من 80 عاما عندما افتتحها وزير الداخلية آنذاك في حفل حضره كبار رجال الدولة بينما تفخر المكتبة بأنها كانت أول موزع للصحف والمجلات الأجنبية في مصر وأول من أدخل الكتب والمجلات الأمريكية للبلاد.

تماما كما تفخر هذه المكتبة بأسماء مؤلفي إصداراتها من وزن وقامة عباس محمود العقاد وزكي نجيب محمود ومحمد حسين هيكل وعبد الرحمن بدوي وأحمد أمين ومحمود تيمور ويوسف السباعي فيما يستعيد الجيل الجديد الذي يدير مكتبة النهضة المصرية كلمة مؤسس الدار وعميدها حسن محمد السيد:"المؤلف يقدم عصارة فكره في الكتاب والطابع يقدم خلاصة فنه والناشر عليه أن يقدم للكتاب روحه".

وفيما يحفل كتاب رسائل كالفينو بالعديد من الطرائف والذكريات في عالم النشر مع كبار الكتاب فإن جلال حزي يستعيد بفخر أن الكاتب العملاق عباس محمود العقاد عندما أراد كتابة كتاب بعنوان:"الله" طلب منه كل المراجع المفيدة له في هذا العمل الكبير كما يؤكد على أهمية دور مكتبته للباحثين في مجال القانون.

ويقول ايان طومسون في صحيفة الجارديان البريطانية إن المراسلات في هذا الكتاب لايتالو كالفينو صاحب ثلاثية "اسلافنا" ورائعة "لو أن مسافرا في ليلة شتاء" تعكس بصفاء الرؤية الفلسفية المرحة بمداعبات بين كتاب كبار كما تعكس تنوع الاهتمامات وان كانت هموم النشر وسياساته هي الأبرز في اهتمامات كالفينو.

وعبر دار نشر اينايودي عرف كالفينو أيضا المفكر والشاعر والكاتب والمخرج السينمائي بيير بأولو بازوليني الذي كان يشكل ظاهرة ثقافية إيطالية غير عادية بأي حال من الأحوال لتعدد اهتماماته الفكرية وتميزه اللافت في هذه المجالات المتعددة ما بين الصحافة والفلسفة واللغة والمتابة الروائية والمسرحية والسينما.

وتوضح المراسلات المنشرة في هذا الكتاب أن كالفينو وبازوليني قد اشتركا معا في الاهتمام بخبايا عالم النشر بقدر مااشتركا في اهتمام لافت باللهجات المحلية في ايطاليا والأدب الفلكلوري وبالتأكيد كانا يحملان معا رؤية يسارية لبلادهما والعالم.

ومن المثير للتأمل أن مصر عرفت ظاهرة دور النشر التي تقام لفترة مؤقتة ولهدف محدد مثل "دار الكرنك" التي اقيمت في أواخر خمسينات القرن العشرين أثناء أزمة سياسية حادة بين نظام الرئيس جمال عبد الناصر والاتحاد السوفييتي حينئذ واقترنت بحملة اعتقالات واسعة النطاق للشيوعيين المصريين فيما تخصصت هذه الدار في نشر الكتب المعادية للشيوعية حتى اختفت فجأة مع المد الكبير في العلاقات الودية بين مصر الناصرية وموسكو خروشوف وبريجنيف.

وكان ايتالو كالفينو الذي قضي في التاسع عشر من سبتمبر عام 1985 ووصف بأنه "صاحب السرد المبهج" قد ترك صفوف الحزب الشيوعي الايطالي في عام 1957 بعد أن سحقت الدبابات السوفيتية الانتفاضة الشعبية في المجر.

وإذا كان الكاتب الذي جمع ما بين الواقع والأسطورة على نحو فريد في إبداعاته قد أبدى دوما اهتماما غير عادي بعالم النشر وسياساته فلعل المكتبة المصرية تستقبل يوما كتابا لناشر عن رؤيته لعالم النشر.. يحكي ويكشف ويحلم كما حكى كالفينو وكشف وحلم ومنحنا اللذة.
الجريدة الرسمية