رئيس التحرير
عصام كامل

دولة الإنشاد الديني في مصر.. تأسست مع نهاية القرن 19 وتوهجت بداية الـ20.. النقشبندي وعلي محمود الرواد.. والكتاتيب تساهم في الانتشار

الشيخ النقشبندي
الشيخ النقشبندي

كثيرا ما سعى الإنسان في كل زمان ومكان وبمختلف الأجناس والألسنة إلى البحث عن وسيلة للتواصل مع الإله في عليائه بالدعاء بالمناجاة وبالغناء فكما بعث الله تعالى الأنبياء لتبليغ رسالاته استجاب الإنسان لذلك الاتصال المقدس فأفضى بمكنونات قلبه ودخائل نفسه من شكوى ورجاء بأبهى الصور الممكنة وأبسطها بصوته.

البداية

مع وصول الدين الإسلامي إلى مصر ، أصبح الإنشاد الديني جزءا أصيلا من الحضارة الإسلامية ، يعكس تاريخها الطويل ، وسماحة رسالتها ، وسمو روحها ، وبات فنا قائما بذاته له قواعد وأصول راسخة ، وفروع ومذاهب عديدة ، ويخرج من تحت عباءته ألوان مختلفة منها: الابتهال حيث يلقي المبتهل قصيدة شعرية كاملة يتضرع فيها إلى الله تعالى معتمدا على صوته فقط دون آلات موسيقية في أداء منفرد.

وكذلك التوشيح الديني الذي يتشابه مع الابتهال في إلقاء الشخص قصيدة شعرية للتقرب إلى الله تعالى دون موسيقى ولكن يشاركه الأداء مجموعة من بطانته ثم يأتي الإنشاد الذي قد يكون أداء منفردا كالابتهال ، وقد يكون مع جماعة كالتوشيح ، ولكنه يتميز بوجود الموسيقى ، وهناك أيضا ألوان أخرى مثل الغناء الديني والمديح الشعبي ويكون باللغة العامية أو الفصحى.

ريادة مصرية

ريادة مصر التواقة دائما وأبدا إلى كل جميل يسمو بالروح والنفس، وجدت ضالتها للتعبير عن حب الله تعالى والتقرب إليه بالإنشاد والابتهال في المناسبات الدينية كالمولد النبوي، والموالد الشعبية لآل البيت وأولياء الله الصالحين، حيث أولتها الدولة الفاطمية أهمية جمة، فلم يكن غريبا على المصريين الذين تغني أجدادهم في المعابد تضرعا للألهة أن يحظي فن الإنشاد الديني على مكانة عميقة في قلوبهم ويصبح جزءا من تراثهم الشعبي الزاخر بالكنوز.

ومع نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، أصبحت مصر رائدة في فن الابتهال والتوشيح والإنشاد الديني الذي اقترن بشكل كبير بقراءة وترتيل القرآن الكريم، ربما نتيجة لتطابق الشروط والإمكانات التي يجب أن تتوافر في الشخص المرتل للقرآن الكريم أو المؤدي لفنون الإنشاد وأهمها جمال الصوت، والنطق السليم، والإلمام بقواعد اللغة العربية، وإتقان المقامات الموسيقية.

الكتاتيب

انتشار الكتاتيب ليس فقط في المدن بل أيضا في المراكز والقرى الصغيرة، ساهم بشكل كبير في تخريج أجيال من حفظة القرآن الكريم الذين ذاقوا حلاوة بيانه ، وبلاغة كلماته ، فأبدعوا في ترتيله، وهم على بينة تامة وإلمام كامل بقواعد اللغة العربية ، والذين رزقوا منهم بنعمة الصوت العذب، لم يكتفوا بقراءة القرآن الكريم.

بل عرفوا رحابا جديدة من السمو الروحي في الأشعار الصوفية ومدائح القدماء، فتغنوا بها في ابتهالاتهم وتواشيحهم حتى أصبحت مصر آنذاك منارة للعالم العربي والإسلامي بفن الإنشاد الديني.

الرواد 

ومن أهم رواد فن الإنشاد الديني في مصر وأعلامه الشيخ على محمود، منشد مصر الأول الذي ولد عام 1878 ثم جاء من بعده الشيخ سيد النقشبندي الذي أطلق عليه عدة ألقاب منها الصوت الخاشع، والكروان، فقد حباه الله بصوت قوي مفعم بالإحساس مكنه من الوصول إلى قلوب العامة وما زالت تواشيحه ترتبط في أذهان الملايين بشهر رمضان الكريم.

ويعتقد البعض أن العصر الذهبي لفن الإنشاد في مصر قد أفل، واستطاعت بعض الدول العربية والإسلامية سحب بساط الريادة من تحت أقدامها خاصة بعد أن توفي الرواد الأوائل ورغم ظهور مواهب جديدة تتمتع بحسن الصوت إلا أنهم لم يرتقوا إلى مكانه هؤلاء العظماء.

يقول المنشد محمود هلال الملقب بمنشد العرب والحاصل على عدة جوائز منها جائزة الشارقة: "الواقع يقول إننا لم نعد روادا في أي مجال فني، وأن كل نجاح يتحقق ويلمع بريقه لا يستمر طويلا وسرعان ما يخفت ، وهذا يرتبط بشكل كبير بطبيعة العصر، ولكن في الوقت نفسه نلحظ في السنوات العشرة الأخيرة اهتماما متزايدا من الشباب بالإنشاد الديني، ونرى إقبالا كبيرا منهم لحضور حفلاتنا، بل واستضافتنا في حفلات جامعية، وغيرها من الفعاليات التي تعتمد بشكل أساسي على الشباب".

تراجع الشعبية

ويرفض المنشد الشاب إرجاع بعض الخبراء سبب تقلص شعبية فن الإنشاد إلى ظهور ألوان فنية شبابية كالمهرجانات والأغاني الشعبية، فيقول: "الأغاني الشعبية تواجدت في كل العصور ، ووجودها لم يؤثر على الإنشاد الديني وقت ازدهاره ، ولن يؤثر عليه اليوم، فمهما استمع الشباب إلى الأغاني الشعبية والمهرجانات وغيرها ، فالجانب الروحي بداخله لن يشبعه سوي الإنشاد".

يعتقد "محمود هلال" أن مهمة النهوض بفن الإنشاد وإعادته إلى عصره الذهبي ليست مستحيلة التحقق، ولكنها تتطلب تعاون ثلاثة أطراف معا الدولة، المستمعين والمنشدين أنفسهم، فيقول: "نحتاج أكاديميات أو معاهد متخصصة في الإنشاد الديني ، يتعلم فيها المنشد أسس الفن على يد أساتذة ، فكثير من المواهب لم تحصل على 1% من المعارف التي تشبع بها مشايخنا من علوم القرآن الكريم واللغة العربية والتجويد وكذلك التربية والآدب، فالمنشد يجب أن يكون شخصا مهذبا على خلق قبل أن يشدوا بكلمات في حب الله عز وجل ومدح رسوله صلى الله عليه وسلم".

ويتابع: "هناك محاولات من وزارة الثقافة لإقامة أوركسترا إنشاد ديني، وهو جهد مشكور ونتمنى أن تؤسس الوزارة لجنة تعني باختيار أعضاء هذا الأوركسترا وإدارته بالشكل الأمثل وكذلك نحتاج إلى عمل مسابقات على مستوى عال للإنشاد وحل أزمة نقابة الإنشاد الديني التي لم تشهر حتى الآن بسبب أننا نتبع نقابة الموسيقيين".

وعن دور المستمعين والجمهور فيعتقد أنه يجب النهوض بالذوق العام مرة أخرى، "وهذا لا يأتى إلا بالتربية السليمة، وتنشئة أجيال قادرة على تذوق الفن، ورفض الإسفاف".

أما فيما يتعلق بدور المنشدين فيقول: "مصر عامرة بالمواهب الواعدة، الذين لا ينقصهم جمال الصوت وقوته، يحتاجون فقط إلى البحث عن معلمين من شيوخنا الأجلاء والتتلمذ على أيديهم لينهلوا من علومهم وأخلاقهم، كذلك عليهم مواصلة التدريب وحفظ المزيد من التواشيح، وعدم الاكتفاء بإجادة بعض أناشيد وترديدها، وأوصيهم بالتمسك بالأخلاق الحميدة فهذا من شأنه رفع مكانه المنشدين لدى الناس وكسب احترامهم".

ويعتقد المنشد محمود هلال أنه من الصعب التنبؤ بمستقبل الإنشاد الديني في مصر، ففي هذا العصر كل يوم يحمل في طياته شيئا جديدا، ويقول: "نحاول كل يوم مواكبة ذوق الشباب، ليزدهر فن الإنشاد ويحصل على المكانة التي يستحقها، ولكن من سمات هذا العصر أنه لا يمكن التنبؤ بما سيحدث في الغد، ولكن الأكيد أن فن الإنشاد الذي عاش آلاف السنين لن يخبو نوره". 

نقلًا عن العدد الورقي...

الجريدة الرسمية