رئيس التحرير
عصام كامل

الشيخ على محمود.. منشد الطير السارح..عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان كانوا أصدقاءه.. و"رفعت" و"الفشني" أبرز تلاميذه

الشيخ علي محمود ...صورة
الشيخ علي محمود ...صورة أرشيفية

من منا لم يقف مشدوها أمام صوت القارئ المجهول الذي ظهر وهو يتلو آيات من الذكر الحكيم في أحد مشاهد الفيلم الأقوى في تاريخ الراحل وحش الشاشة فريد شوقي "رصيف نمرة خمسة"!

منشد المسارح

الكثيرون لا يعلمون من هو صاحب الصوت العذب والنبرة الهادئة الذي اخترق أجواء الفيلم التشويقية، واستطاع في مشهد صغير أن يترك أثرا في نفوس الأجيال الجديدة نوعا ما، إنه صوت القارئ الشيخ على محمود "منشد الطير السارح" كما أطلق عليه بعض الكتاب ومتخصصو علوم الصوتيات والقراءات.

صوت مصري أصيل نبت في المنطقة الحسينية بالقاهرة، في عصر ما قبل ظهور الميكروفونات وأجهزة تحسين الصوت المتنوعة، فكان يصعد الدرج الخشبي لجامع الحسين في صلاة الفجر، يؤذن في الناس كل يوم بمقام مختلف، فيستيقظ سكان باب الفتوح حتى بوابة المتولي.

علي محمود

في عام 1878 وفي منطقة درب حجازي الملحقة بحي الجمالية في القاهرة، ولد الشيخ على محمود ـــ الذي يعتبر مؤسس فن الإنشاد الديني خلال الربع الأول من القرن العشرين ليس في مصر فقط ولكن في العالم الإسلامي كله ــ لأسرة ميسورة الحال من سكان حي الحسين العتيق.

ولد مبصرا إلا أنه وبينما كان في سن صغيرة تعرض لحادث أليم تأثرت فيه عينيه، وبسبب تأخر الطب المصري في تلك الفترة، وعدم اعتناء الأهل بحالة الصبي فقد بصره بعد أيام قليلة من الحادث، ليسير في رحلة استمرت 65 عاما بلا بصر، لكنه امتلك بصيرة قوية وحسا غنائيا عاليا ولد معه في أيام الصبا الأولى.

الطرب 

حينما كان يتابع وبشغف طفل ما زال يستكشف بعد ما حوله أغنيات ومواويل المطرب "عبده الحامولي"، لكن كان للطبيعة الدينية المحافظة لأسرة الشيخ على أثر في ترك الغناء والمواويل فترة من الزمن لينصرف إلى القرآن الكريم.

ولم يكتف بهذا فحسب، بل تعلم فنون التجويد الخاص بآيات القرآن الكريم، ولتواجده في منطقة الحسين وبقائه معظم الوقت في رحاب المسجد مع كبار القراء والعلماء الدينيين، لمس بعضهم فيه صوتا عذبا ونبرة هادئة تمس قلوبهم وأرواحهم، فما كان منهم إلا أن أسندوا له مهمة قراءة آيات من القرآن الكريم في صحن المسجد الحسيني، وسريعا ذات صيته في أرجاء المسجد، وأصبح كالإمام الذي يأتيه المريديون من كل حدب وصوب.

الأزهر 

ونجح في وقت قصير أن يحتل مكانة خاصة بين كبار القراء في هذا الزمان، مثل الشيخ حسين الصواف وأحمد ندا وغيرهما، وشهد له سكان المنطقة ممن درسوا علوم الإلقاء والتجويد في جامع الأزهر، بأنه كان كالمسحور ومن مسه طائف من الجن أو ما شابه، يقف العشرات مذهولين أمام قدرته غير العادية على أن يؤذن للجمعة في مسجد الحسين كل أسبوع، بأذان على مقام موسيقي ثابت لا يكرره إلا بعد مرور عام أو أكثر.

ولم يمتد سحر الشيخ على محمود ليشمل الحي الحسيني القديم فحسب، ولكنه ومع مرور السنوات وتبحره في علوم التجويد والقرآن بالتوازي مع نبوغه وتفرده في فن الإنشاد الديني، أصبح له عدد كبير من المريدين، أو كما كان يطلق عليهم في تلك الفترة "البطانة"، ولكن بطانة الشيخ على محمود كانت تختلف عن غيرها بكثير، فكل اسم له ثقله وله ميزته التي تفرد بها عن غيره.

نجوم الغناء

وقد أكدت التقارير التي أجريت حول سيرة حياة شيخ المنشدين المصريين الشيخ على محمود، أنه كثيرا ما تردد عليه المطرب محمد عبد الوهاب وكوكب الشرق أم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان، فكان بيته بمثابة الصالون الفني الذي يتعلم فيه هؤلاء العمالقة فنون الغناء ومقاماته المختلفة.

أيضا كان من البديهي أن تشتمل بطانته على كبار القراء والمنشدين في تاريخ مصر الحديث، على رأسهم الشيخ طه الفشني الذي كان يعده الابن البكر له، والذي حمل من بعده الراية فكان يلازمه في منزله على مدار اليوم، ليصبح بعد ذلك التلميذ النجيب الذي أكمل مسيرة أستاذه لأول مرة، حينما مرض الشيخ على محمود في حفل إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، وصعد الفشني مكانه ليكمل الحفل.

أما الشيخ محمد رفعت وما يحمله من مكانة كبار القراء المصريين، فقد تتلمذ على يد الشيخ على محمود حتى أصبح من كبار ونبغاء قراء القرآن الكريم، فضلا عن الشيخ محمد الفيومي، والشيخ عبد السميع البيومي، والشيخ كامل البهتيمي وغيرهم.

ولم تغب عن أذهان الكثيرين من عشاق التسجيلات النادرة سواء كانت لآيات الذكر الحكيم، أو الأناشيد الدينية الكثيرة التي حفظت في تاريخ الإنشاد الديني لسنوات طويلة على رأسها (ادخل على قلبي المسرة والفرح – السعد أقبل- أشرق فيومك ساطع بسام) وغيرها من الأناشيد الأخرى.

ضياع التراث 

وبالرغم من أنه منذ وفاة شيخ المنشدين الشيخ على محمود في الحادي والعشرين من ديسمبر في منتصف أربعينيات القرن الماضي، وضياع كثير من التراث الذي تركه، إلا أن البقية الباقية استطاعت أن تحفظ أثره حتى وقتنا هذا، فلا يمكن لأحد أن يذكر تاريخ الإنشاد الديني المصري وكل جديد طرأ عليه.

دون أن يذكر صانع هذا التاريخ، حيث وقع الشيخ على محمود في حب الموسيقى وألوانها، وعشق المقامات وأراد أن يختص كل أذان في مواقيت الصلاة الخمس بمقام لا يكرره في المرة الثانية، ويرى علماء الصوتيات أن هذا نابع من قدرته على استخدام صوته وتطويعه بما يتناسب مع كافة المقامات الموسيقية، حيث إنه كان خلال أيام إلقائه التواشيح الدينية في مسجد الحسين كان يستخدم لكل يوم مقام مختلف عن الآخر.

ففي الإثنين كان مقام سيكا والسبت عشاق والأحد حجاز ومقام البياتي كان يخصص له يوم الجمعة لحبه له.

نقلًا عن العدد الورقي...،

الجريدة الرسمية