الشيخ طه الفشني.. صوت ملائكي يطرب القلوب.. مسيرة حافلة وتاريخ ناصع في الإنشاد.. الصدفة تقوده للإذاعة.. وعلي محمود يعتبره خليفته
عد إلى الخلف قليلا.. اتكأ برأسك على الحائط.. ثم استدع الحالة التي تكون عليها حينما يتبادر إلى ذهنك صوت القارئ والمنشد "طه الفشني" أو ملك العذوبة كما كان يقال عنه دائمًا وهو يقول في الموشح الأشهر له على الإطلاق في تاريخ الإنشاد الذي استمر لأكثر من 50 عامًا "أيها المختار" وتحديدًا عند جملة "في مدحه ماذا أقول" حتما سيغيب عقلك لثوان وتتمايل برأسك مع المد الناعم والإيقاع الهادئ لوقع الكلمة على أذنك.
ستميل برأسك معه وكأنك في حلقة ذكر بطلها الشيخ الذي وافته المنية منذ 49 عاما تاركا خلفه رصيدا هاما لا يمكن لأي شخص مهما كان الجيل الذي ينتمي إليه أن يغفله ولو لدقائق قليلة.
ولد الشيخ طه الفشني في مركز "الفشن" بمحافظة بني سويف عام 1900م، لأب يعمل في تجارة الأقمشة، أسرة ميسورة الحال إلى حد ما، ولكن كطبيعة معظم الأسر في تلك الحقبة وفي هذا المربع الجغرافي على وجه التحديد، كانت تقدس التعليم الديني وتعده كالماء والهواء في حياتها، ما دفع الأب إلى أن يلحق ابنه الذي تميز بالصوت الملائكي العذب بالكتاب المجاور للمنزل.
البداية
وفي عامه العاشر نجح في حفظ القرآن الكريم كاملا ، ولكن ذلك لم يمنعه من استثمار صوته في حدود الممكن من خلال المشاركة في حلقات الإنشاد الديني التي تتم في محيط سكنه، ومع مرور السنوات كبر طه صاحب الصوت الرخيم، ونمت معه موهبته سواء في الإنشاد أو تلاوة القرآن الكريم، والتحق بمدرسة المعلمين، وهناك اكتشف ناظر مدرسته موهبته، فقام بإسناد مهمة تلاوة آيات من القرآن الكريم بشكل يومي في الإذاعة المدرسية، وكذلك حفلات المدرسة اليومية له.
ولكن كان للأب طموح لا يقتصر على الدراسة في مدرسة المعلمين أو حتى الإلقاء والإنشاد في الإذاعة المدرسية، بل أراد أن يدرس ابنه القضاء الشرعي، وبالفعل سافر طه إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة القضاء الشرعي، إلا أن ذلك تزامن مع اندلاع ثورة 1919 ما أدى إلى عودته مرة أخرى إلى المركز، ولكن هذه المرة في صورة القارئ في مآتم القرية والقرى المجاورة والمنشد أيضا في حلقات الذكر.
اللحاق بالقاهرة
بعد فترة قصيرة قضاها الفشني في قريته، راوده حبه وتعلقه بالقاهرة وبليالي الحسين التي لا تغيب عن ذهنه، فقرر العودة إليها مرة أخرى، ولكن هذه المرة ليست للالتحاق بمدرسة القضاء الشرعي، ولكن لدراسة علم القراءات في الأزهر الشريف.
وخلال سنوات قليلة ولأنه بالفطرة يتمتع بصوت فريد شغف كل من استمع إليه حبا وخشوعا، فقد نجح في تعلم وإجادة كافة علوم القراءات على يد الشيخ "عبد الحميد السحار".
الإذاعة والحسين
وفي إحدى السهرات الدينية الحسينية تعرف طه الفشني على شيخ المنشدين الشيخ "علي محمود" الذي أصبح بعد ذلك تلميذه، بل وامتداده الذي حفظ أثره بعد وفاته، وفي إحدى الليالي الحسينية ، وعن طريق الصدفة البحتة نجح الفشني في دخول الإذاعة المصرية من أوسع أبوابها، وتم تخصيص له فترة تتجاوز الربع ساعة يوميا يتمكن خلالها من تلاوة آيات من الذكر الحكيم ، وكل ذلك تم في أقل من نصف ساعة، حينما صعد في إحدى المرات التي رافق فيها الشيخ علي محمود في السهرات الحسينية ليلقي النشيد الديني بدلا منه، وكان رئيس الإذاعة المصرية ضمن الحضور، فأمره أن يأتي في الصباح الباكر ليسجل أولى فقراته مع الإذاعة المصرية عام 1937.
ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، فاقتراب مسكنه من مسجد الحسين ولأن صوته تفرد بالنبرة التي عشقها وتعلق بها سكان الحي جميعهم استحق وعن جدارة أن يحمل لقب "مؤذن مسجد الحسين الأول"، فعلى مدار سنوات حياته التي قضاها في الحسين، أصبح قارئ المسجد الأوحد، وكذلك قارئ سورة الكهف أيام الجمعة في مسجد السيدة سكينة.
مسيرة حياته الحافلة لم تخل من أصدقاء كانوا خير عون وزاد العيش لطه الفشني، على رأسهم الشيخ مصطفى إسماعيل الذي رافقه لمدة 9 سنوات متتالية في حفلات قصر عابدين وقصر رأس التين في عهد الملك فاروق الأول ، وكان لمتانة صوته وقوته يستطيع أن يلقي آيات الذكر الحكيم في بداية الحفل.
ثم ما يلبث أن يشرع في إلقاء بعض الأناشيد الدينية المختارة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، أو حتى أناشيد التأمل في عجائب الخلق، وكانت من أهم تلك الأناشيد (أنت للإحسان أهل – آخذ بالروح مني - أيها المختار - السيرة العطرة - بشراكِ يا نفس) وغيرها من أجمل التواشيح الدينية التي ما زلنا نبحث عنها خاصة مع اقتراب شهر رمضان المبارك.
وخلال عام 1942 وقبل وفاة شيخ المنشدين ومعلم طه الفشني الأول الشيخ على محمود بأيام قليلة كانت الإذاعة المصرية تستعد لإحياء حفل العام الهجري الجديد فتم استدعاء الفشني ليحل محل علي محمود ، ويحيي الحفل إلا أنه رفض أن يقوم مقام أستاذه إلا بعد أن يسمح له بذلك ، فما كان من علي محمود إلا أن أمره بإحياء الحفل ، مؤكدًا عليه أنه ابنه وخليفته ، وكان هذا الحفل سببًا في اتساع شهرة طه الفشني مما دعاه لإنشاء فرقة إنشاد خاصة به مع استمرار عمله كقارئ في الإذاعة المصرية.
الذروة الصغرى
لم تكن المَلكة التي اختص بها الله سبحانه وتعالى الشيخ الفشني دون غيره آتية من فراغ، أو ضربا من ضروب الحظ، ربما الأمر أكبر من ذلك.
وبالعودة إلى التفسير العلمي والفني لطبقة الصوت التي كانت تبهر الملايين ليس في مصر فقط ولكن في العالم أجمع، يؤكد المتخصصون في علوم الصوتيات أن الراحل كان يمتلك ما يسمى في علم الصوتيات والقراءات بـ "الذروة الصغرى لقرار القرار"، ويعنون بها تلك الدرجة الهامسة من الصوت المنخفض، وهي التي كانت تضفي نغمة خاصة وفريدة على صوت الراحل ولا يملكها عادة إلا أصحاب الصوت العذب فقط. حيث كان ينجح في التنقل بين جواب الجواب وقرار القرار في انسيابية وسحر أطلق عليه البعض "السحر الرباني".