رئيس التحرير
عصام كامل

من المجالس البلدية إلى الجنازات الملكية ‏لملوك العالم.. الإسكندرية.. رمز الحداثة في الشرق.. حلم الإسكندر ومحمد علي يعيدها للتاريخ 

مدينة الإسكندرية
مدينة الإسكندرية _ صورة أرشيفية

كانت الإسكندرية في السابق رمزًا للحداثة وصفها دليل المدن العالمي عام 1938 بأنها مدينة تتحسن بسرعة وبشكل مستمر في كل وسائل التقدم الحديث وإن كانت بدأت في فقدان هذا البريق منذ الستينيات ولم تعد بنفس حريتها وأناقتها القديمة.

 ‏بداية التدهور

في عام 1963 كتب الصحفي الشهير ديفيد هولدن كبير المراسلين الأجانب لصحيفة صنداي تايمز والمتخصص في شئون الشرق الأوسط ‏وهو يتحسر على ملامح تراجع الإسكندرية عن حداثتها: كيف أصبحت هكذا وقد اجتاحت التاريخ وكانت حفلات وداع السكندريين الذين كانوا يغادرون أي ‏ملتقى عالمي ، تجرى لهم بمستوى يليق برعاة الحداثة في العالم. ‏

كانت الإسكندرية مدينة عالمية تختلط فيها الحضارات بشكل متناغم ، كل من يزورها حتى الآن وبالرغم من تراجعها التاريخي ، يستنشق فيها رائحة الإسكندر ‏وبطليموس ، يجدها منتشرة في شوارع المدينة وخاصة على الشاطئ.

صحيح أن الإسكندرية اليوم لديها القليل من الأدلة على ماضيها بعدما ضاعت ملامح أحيائها ‏الخمسة التي تشكل أحرفها الخمسة الأولى من الأبجدية اليونانية ، القصر ، والمنارة ، والمكتبة ، وضريح الإسكندر ، وقبر بطليموس ، وسط متاهة ‏الخرسانات القبيحة والعمارات المخالفة التي شوهت تاريخها. ‏

مدينة عظيمة

قصة بناء الإسكندرية معروفة غالبا في هذه القطعة من الماس المتشاطئ على البحر الأبيض المتوسط ، جاء الإسكندر الأكبر وطلب من المهندس ‏المعماري رودس دينوقراط ومهندسيه بناء مدينة وقال: "هنا سنبني مدينة عظيمة ، معالم ، وشوارع ، ومعابد ، وسيكون هناك حريق مشتعل ليلًا يقود السفن ‏من اليونان إلى مصر.

وبعد فترة وجيزة غادر إلى واحة سبأ وبابل حيث توفي عن عمر يناهز 33 عامًا ولم يتمكن من العودة إلى المدينة التي حلم ‏بها ونحتها ، قصة الحداثة الجديدة في الإسكندرية تعود إلى أسرة محمد على بعد عصور من التراجع ويمكن توثيق ذلك بداية من عام 1806 حين كان عدد سكانها آنذاك ‏ستة آلاف نسمة عندما زارها فرانسوا رينيه دي ساتوبريان الكاتب الفرنسي الشهير ولم يسعد بها.

محمد علي

وربما كان له رأي مختلف عندما زارها عام ‏‏1849 بعدما حط فيها محمد على آخر مؤسس للسلالات الملكية في مصر أفكاره ووضع بذور النهضة وأنشأ قناة المحمودية وعبرها تواصلت ‏الإسكندرية مع القاهرة.

وقد فتح محمد على الباب للأوروبيين للتمركز في الإسكندرية، كان معظمهم من اليونانيين الذين شكلوا مجلسا بلديا ، بدأ بجمعيات خيرية وأشغال عامة ‏ضخمة.

وفي أوائل القرن العشرين ظهرت اللمسات الأوروبية على عروس البحر ، بإنشاء المدارس والمستشفيات والمسارح وإعادة إنتاج المكتبة ، ومد ‏شبكة سكك حديدية ممتازة ، ودشن البريد المصري ، وشركة القطن الدولية ، والسينما وعرفت مصر الصحافة من خلالها.

ومع الوقت لمعت الإسكندرية ، ولم تكن تفتقر إلى أي مظهر من مظاهر الحداثة الأوروبية ولهذا عكست أسماء ضواحيها لونها العالمي ، الضواحي ذات ‏الأسماء العربية ، سيدي جابر ، ومحطة الرمل ، والإبراهمية ، جنبًا إلى جنب مع الأحياء الأوروبية ، سان ستيفانو ، ستانلي ، وظلت طوال عصرها ‏‏الذهبي وخاصة منذ عام 1860 وحتى 1960، تُسمع فيها ‏التقاليد الموسيقية المختلفة ، وكانت الموسيقى الشعبية آنذاك غربية أكثر ‏من مثيلاتها في أوروبا!

البحرية

عمل محمد على وأسرته على إنشاء واجهة بحرية "الكورنيش" على طول الواجهة المائية للبحر وكانت هناك مبانٍ ذات فن معماري ‏فريد ومتاجر أنيقة ونوادي ليلية ويتوسطها فندق سيسيل الشهير.

وداخل المدينة كانت هناك حدائق جميلة وساحات كبيرة وحدائق عامة ومناطق سكنية حديثة في الصيف كانت تنتقل إليها العائلة المالكة والحكومة ‏بأكملها إلى الإسكندرية ، ولهذا كانت عاصمة غير رسمية لمصر تنافس في جمالها مدن "نيس" و"مونت كارلو" و"سان ريمو" ، وكانت مزارًا دائمًا ‏لأغلب ملوك العالم لقضاء عطلاتهم خاصة أن مناخها كان يجعلها المكان المثالي للراحة.

الحرب العالمية الثانية

‏يكشف تاريخ الأحداث في الحرب العالمية الثانية، أن المدينة كانت ملاذا آمنا للعائلات الملكية من جنوب وشرق أوروبا بعدما أجبروا على الفرار من ‏بلادهم هربًا من قوات الغزو الألمانية أو المدنيين الذين يهددون حياتهم.

لعبت الإسكندرية نفس دور إنجلترا في احتواء العائلات المالكة، ولا سيما أن ‏الملك فاروق ، كان معروفا عنه أنه مضيفًا مهذبًا ولطيفًا لزوار بلاده. ‏ كانت اللغة اليونانية معروفة في الإسكندرية ، والكثير من سكانها يتحدثون بها وكانت تضم بجانب المسلمين اليهود والأقباط والأرثوذكس والبروتستانت ‏والكاثوليك عاشوا جميعًا معًا في الإسكندرية وشكلوا دائرة مثيرة للاهتمام.

وكان الأثريون السكندريون يستقبلون في منازلهم الأعضاء المنفيين من ‏العائلات الملكية وكانت الصحف تتحدث عن الملتقيات الثقافية وما يدور في هذه التجمعات بفضل لون الإسكندرية العالمي وازدهار سكانها ويشهد على ذلك ‏حفلات الزفاف الملكية والجنازات التي جرت في الإسكندرية علامة كبيرة على تاريخ الإسكندرية الحديثة.

جنازات ملكية

وأبرز الذين توفوا في الإسكندرية ملك إيطاليا فيتوريو إيمانويل الثالث في 28 ديسمبر 1947 عن 78 عاما بعد إصابته باحتقان رئوي حاد. خلال ‏ممارسة هواية الصيد المفضلة لديه ، وفي 31 ديسمبر نظم الملك فاروق جنازة كبيرة لصديقه الشخصي وتم تغطية النعش بالعلم الملكي لإيطاليا ‏وغادر قصر الملك لأول مرة ، وبعد عبور الشوارع المركزية في الإسكندرية تجمعت حشود من الناس ووصل إلى كاتدرائية سانت كاترين ‏حيث دفن الملك.

‏ نفس الأمر تكرر في يناير 1948 بعدما توفيت شقيقة ملك الألبان أحمد زوغو ، الأميرة روهيج بمرض خطير وأمر الملك فاروق بجنازة رسمية ودفن ‏جثمانها في مقبرة بكتاشي في القاهرة.

كما شهدت الإسكندرية جنازة الملك فيتوريو إيمانويل جوستيس آخر ملوك إيطاليا في 31 ديسمبر 1947 ‏بالإسكندرية ، وفي العام التالي كانت العائلة المالكة لإيطاليا تحتفل في الإسكندرية بزواج حفيدة فيتوريو إيمانويل من أحد أثرياء مصر والإسكندرية ‏في هذا الوقت، وحضر حفل الزفاف 20 فردًا من العائلة المالكة الإيطالية المجتمعين في الإسكندرية.

 في التراجع أسى وربما لهذا يشعر الكثير من المصريين أن الإسكندرانية يتعاملون وكأن على رءوسهم ريشة ولكنه الحنين إلى الماضي، الشمس التي تبتسم دائمًا في ‏عروس البحر ، الجنة الملكية للأمراء والسلاطين والملوك، من جميع أنحاء العالم ، السيجار الكوبي الذي كان يدخنه أغلب السكندريون ، ولهذا تسيطر الأحلام بشدة على هذه المدينة وأهلها، كما في دور السينما ، ‏ولهذا السبب وصفها لورانس جورج داريل، الروائي البريطاني وأديب الرحلات الشهير بـ«عاصمة الذاكرة».

‏ بدأ الوضع السياسي في الإسكندرية في التلاشي بعد عام 1947، غادرت العائلات الملكية، وبدأت في التحرك تدريجيًا نحو أوروبا ، ضيق على المدينة ، مع رحيلهم ، انتهى شعار "الجنة الملكية" إلى الأبد ، وأصبحت من ‏وقتها تتذكر عراقتها من عبق التاريخ ، والتاريخ وحده! ‏  

نقلًا عن العدد الورقي...

الجريدة الرسمية