منتصر عمران يكتب: ورحل الطبيب الإنسان
الطب رسالة قبل أن تكون مهنة.. والطبيب صاحب رسالة قبل أن يكون صاحب مهنة.. فالطبيب إنسان يحمل في عقله وقلبه رسالة عبقة وأيضا يحمل الطبيب رسالة اجتماعية سامية من خلال أداء مهنة الطب فالطبيب يصلح بين الناس ويقوم بشفائهم وإزالة السقم من أجسامهم.
فالطبيب قبل أن يقوم بتشخيص المرض وقبل أن يقدم أفضل الحلول من الناحية الطبية يقدم له الرحمة والإنسانية لذا لا يجب على الطبيب أن يجعل مهنة الطب مقتصرة على مكان بل يجب أن يلتزم بأخلاقيات المهنة حيث كان لأن حياة الناس وراحتهم غالبا تكون بين يدي الطبيب الخاص بهم.
فمن هذا النموذج الدكتور جبريل على يوسف استشاري الرمد بمركز أرمنت التابع لمحافظة الاقصر.. وعلى الرغم من انه ليس من أبناء المحافظة ولا من الصعيد بأثره بل قدم الى هذه المدينة التاريخية من مدينة طنطا بعد انهى دراسته في كلية الطب جامعة عين شمس.. إلا أنه كان إنسانًا صاحب رسالة قبل أن يكون طبيبا.
فهو قبل وبعد أن يحمل مهنة الطب فهو إنسان صاحب مبادئ أراد أن يوصل رسالته الى أبناء المدينة الهادئة وهو يعلم لو أنه استغل مهنته في كنز المال لحصل على ما يريد.. ولكنه جعل من نفسه رسول الإنسانية ومبعوث رسالة سامية ومهنة نبوية، حيث كانت مهنة الطب رسالة عيسى عليه السلام.
والمعتاد في مثل حالته وهو الغريب عن الدار ان يجعل من المال عزوة له ومكانة بين أبناء المدينة وهذا ما يفعله كل مهاجر الى مكان بعيد.. ولكن وكما قلت انه صاحب رسالة لذا جعل عزوته وعلو مكانته في صناعة الخير
فمن مآثره التي تروى عنه انه كان كل يوم وقبل صلاة الفجر يذهب إلى حمامات المسجد العتيق الذي يسكن بجواره ويقوم بتنظيفها قبل أن يأتي إليها المصلون لأداء الصلاة ويعود مرة أخرى لمنزله ويتنظف ويتوضأ ثم يأتي مرة أخرى إلى المسجد.. وقد أذن للصلاة ليؤدي فريضة يغفل عنها كثير من الناس في زماننا.
ومن اعماله الخيرية أذكر هنا واقعة لرجل مسن من أهالي مدينة الغردقة حيث كان يعمل بها خال لي وقد كاد ان يفقد بصره وسمع عن الدكتور جبريل فطلب الرجل المسن من خالي أن يذهب للدكتور جبريل.. ولبى خالي طلبه وجاء الى مدينة أرمنت ونزل في ضيافة خالي في منزله بقرية مجاورة لمدينة أرمنت حيث سكن وعيادة الدكتور جبريل.. وبعد أن ارتاح من عناء السفر أخذه خالي وذهب به إلى الدكتور جبريل.. وقبل أن يكشف عليه كعادته رحب به وتعرف على احواله وأحوال أهالي الغردقة.. وبعد أن استأنس به كشف عليه وأجرى له العملية التي كان يحتاجها وخرج من عيادته دون أن يتفق معه على ثمن العملية.. فتعجب الرجل واستفسر عن أجرته فقال له خالي: الدكتور لا يحدد مبلغا معينا فحسب قدرتك.. وبالفعل أعطائه المال فأخذه الدكتور دون أن يدري كم المبلغ لأنه رحمه الله آخر شيء كان يفكر فيه المال.
وكما قلت لم يكن مجرد طبيب موفق في مهنته بل صاحب رسالة فهو الذي بنى للمستشفى مسجدا لكي يصلي فيه الناس وكان يحاول بكل الامكانيات المتوفرة وبمجهوده الفردي في رفع كفاءة المستشفى وتوفير المستلزمات الطبية التي يحتاجها المرضى.
ولأنه كان يحب أن يعمل في الخفاء لذا لا ترى له وجودا في المناسبات العامة ولكن ترى له أعمالًا تدل عليه فهو بالفعل الغائب الحاضر.
ومن زهده في متاع الدنيا ذكر عنه أن زوجته طلبت منه شراء مسكن خاص لهم بدلا من سكن الإيجار فأخذ بها إلى المقابر، وأشار إلى مكان في المقبرة وقال: هذا هو بيتنا الخاص وسكننا الأبدي.
فكل أعماله شفعت له أن تكون خاتمته نحسبها حسنة.. فعلى الرغم من وصوله إلى أرذل العمر وعلى الرغم أيضا من إصابته بكورونا إلا أن وفاته كانت نتيجة لأزمة قلبية.. وفي يوم جمعة التي أخبرنا رسولنا الكريم انها من أفضل أيام الدنيا على الإطلاق وأن من يموت فيها فهي بشرى خير للميت.
رحم الله الدكتور جبريل علي يوسف وأفسح له قبره وجزاه خيرا جزاء ما قدم للإنسانية من خير وأخلفه في ذريته خيرا.