رئيس التحرير
عصام كامل

من المغرب أُحييكم


لا أستطيع أن أرفض دعوة إلى المغرب، جاءتني الدعوة من اتحاد كتاب المغرب منذ أكثر من شهر، للمشاركة في عدة ندوات عن بعض الكتاب المغاربة، من بينهم الكاتبة الكبيرة ربيعة ريحان التي اشتهرت بكتابتها وإخلاصها للقصة القصيرة مثل من سبقها من الكتاب على رأسهم المرحوم محمد زفزاف، ومثل الأحياء أحمد بوزفور وإدريس الخوري، وصدرت لها أخيرا روايتها الجميلة طريق الغرام. 

وبعيدا عن الأسماء التي قد تشغل المقال كله، فالمهم أني لبيت الدعوة كالعادة رغم أنني عائد من هناك منذ شهرين.

الزيارة ستمر ببلاد أحبها مثل الرباط ومراكش، وأيضا ببلدة صغيرة تحيطها الجبال وبين البادية هي بني ملال التي لي معها ذكري غريبة، فمنذ سنوات وأنا في الدار البيضاء في طريقي إلى مراكش كرر الكاتب عبد الكريم الجاويطي من بني ملال دعوته لي لزيارة المدينةـ كان لدي يوم واحد سأعود بعده للقاهرة ووجدت نفسي أوافق على الدعوة رغم ضيق الوقت.

كانت معي زوجتي والصديق سعيد الكفراوي وابنه الفنان عمرو الكفراوي، وصلنا إلى مراكش ولم نمض فيها وقتا طويلا وأخذنا عبدالكريم مساءً إلى بني ملال وصلنا عند الفجر، تأخرنا كثيرا ووقعنا في فخ الوقت فلم نر شيئا من البلدة الصغيرة، وعدنا في الصباح لنصل إلى الدار البيضاء عصرا ثم إلى المطار، اكتشفنا خطأنا في تقدير الوقت وتركنا صديقنا الروائي عبد الكريم الجويطي يشعر بالدهشة لأننا لم نر شيئا من المدينة التي تحدث عنها كثيرا، ولم نقتنع بحديثه هذه المرة كان لدينا الوقت.

في صباح وصولنا أخذنا طريقنا أنا وربيعة ريحان والناقد حسين حمودة إلى منطقة عين اسردون، واسردون تعني بالأمازيغية البغل تتبعا لأسطورة تقول إن بغلا كان يمر وضرب الأرض بقدمه فتفجرت ينابيع المياه، أخذنا نضحك عن البغال التي تفجر المياه في البلاد العربية وتقطع المياه في مصر، وهكذا بين الخضرة المذهلة من أعالي جبال الأطلس حتى عين أسردون التي تجري فيها المينيثواه في قنوات صغيرة وتنزل من شلالات متقطعة من أعلي الجبل ووجدنا نفسنا نتحدث عن أحوالنا.

أنا قادم من اعتصام المثقفين بوزارة الثقافة، وفي مصر التي لا تخفي على أحد ثقافة جديدة كانت تتحرك على مهل لإعادة البلاد قسرا إلى العصور الوسطي بشعارات وهابية مكانها الوحيد الصحراء، في المغرب رغم تولي الوزارة حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلا أن للملك سلطات تحد من التطرف الديني، وبصرف النظر عن ذلك فالمغرب لايزال يحتفظ بجو الحرية المعروف عنهم. والأمن والأمان فيها سائد ولا أحد يتهم مثقفا بالكفر كما اتهم حزب التنمية والعدالة المصري المثقفين بالشيوعية والكفر، نفس اتهامات أمن الدولة للمثقفين عبر أربعين سنة سابقة على ثورة يناير.

رأيت بني ملال الصغيرة جميلة وليس كما رأيتها في زيارتي السريعة السابقة، وسعد الصديق عبد الكريم باهتمامنا أن نتجول بين الخضرة والماء وتذكرنا تلك الليلة المتسرعة وكيف تركناه محبطا، ورغم ما حولنا من وفرة الخضرة واتساع الشوارع التي لا يسمح بارتفاع البيوت فيها أكثر من خمسة أدوار، رغم أن عرض الشارع يصل أحيانا إلى أربعين مترا، أخذنا الحديث إلى شهوة البناء المخالف في مصر التي ترتفع فيه العمارات إلى خمسة عشر دورا في شوارع ستة أمتار بدفع الرشوة للأحياء ثم تعليق لافتة عمارة الرحمن أو عباد الرحمان أو الصفا والمروة وغير ذلك من الأسماء التي لها ظلال دينية، بينما السكان لا يرون شمسا والأطفال يعانون من نقص الكالسيوم لعدم توفر شمس الصباح.

وهذا للأسف يحدث لي في كل مرة أغادر فيها مصر منذ ثورة يناير عام 2011، وربما رأى جيلي الثورة كما لم يرها علماء الاجتماع والسياسة أو أنا شخصيا، لأنه في روحي طبعا سواء أردت أم لا جانبا فنيا يحيط بالعقل، فلقد رأيت الثورة حين حدوثها، حيث تواجدت فيها كل يوم، كأنها قبس من الجنة لابد أن يغير قذارة ما في الأرض، وتركت الميدان مثل الملايين غيري يوم 11 فبراير 2011، حين ترك مبارك الحكم متوقعا الخير كله ناسيا ما غرسه نظام مبارك، وقبله نظام السادات من فساد وإفساد لما صار يعرف بالدولة العميقة، والأهم كيف ترك نظام مبارك وقبله نظام السادات الباب مفتوحا لكل الأفكار الظلامية تهب علينا بتخطيط يراد به لمصر أن تكون ولاية لا معنى لها في حلم كاذب يطلقون عليه الخلافة الإسلامية التي ولى زمنها في عصر الديمقراطيات، وكان هناك ما يشبه الاتفاق أن يترك لهم نظام مبارك وقبله السادات المدن والبلاد في فقر مدقع وفي جهل كبير لتكون مجالا خصبا لأفكارهم الوهابية التي لا ترى في النساء غير الجنس، ولا ترى في الثقافة غير الكفر، ولا ترى في الفن غير الخلاعة، ولا ترى أن نهضة مصر الحديثة منذ محمد على باشا مرورا بأبنائه، وبصفة خاصة إسماعيل باشا، ثم ثورة 1919، هذه النهضة الحديثة قامت كلها على الانفتاح مع أوربا.

مع البحر المتوسط الذي لم يكن سببا في نهضتنا الحديثة فقط، ولكن سببا في قيام عصر كامل هو العصر السكندري الذي امتد منذ القرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن الرابع بعد الميلاد، كانت فيه ثقافة المتوسط اليونانية والرومانية تمتزج بالثقافة المصرية فرعونية وقبطية، وكانت فيه الإسكندرية عاصمة الدنيا فيها المكتبة العظيمة وبها الجامعة التي كانت تسمى الموسيون نسبة إلى الموسيات ربات الجمال في الأساطير الإغريقية، لقد انتهى ذلك كله في عصور الاستبداد العثمانية والمملوكية حتى جاء محمد على وأعاد الأمة إلى البحر المتوسط من جديد، هذا البحر الذي تطل عليه مصر بمسافة تزيد على الألف كيلومتر وأهمله الدستور الذي سلقه هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالإسلاميين وأخذوا وجه مصر إلى الشرق إلى التخلف بحجة الدين الذي هو بريء من تجارتهم.

وهكذا كادت الزيارة تتحول إلى ألم فقررنا أن نتوقف عن الحديث عن التيار الإسلامي أو الذي يسمي نفسه كذلك هنا أو هناك، ونشبع من الماء والخضرة والوجه الحسن.
الجريدة الرسمية