مرة واحد صعيدي...!!
منذ فترة طويلة، قرأت مقالا للراحل المبدع أحمد رجب.. بعنوان "مرة واحد صعيدي".. تناول فيه بالانتقاد الساخر، كعادته، رحمه الله، عادة "التنكيت"، المتوارثة، من أبناء الجنوب في صعيد مصر، والصورة الذهنية المستوحاة من الدراما والسينما..
وإظهارهم على أنهم أقل في الإمكانيات العقلية ويتسمون بضحالة التفكير؛ ومن ثمَّ يرتكبون حماقات تافهة، ويتصرفون بطريقة تبعث على الاستغراب، ويصابون بالدهشة إزاء أي جديد.. ومن هذا القبيل أفلام الراحل علي الكسار، وإسماعيل ياسين.. وهل ننسى أنه اشترى "العتبة" في أحد أشهر تلك الأفلام؟! وهل ننسى العملاق أحمد زكي في "البيه البواب"؟!!
هكذا جُبِلَ المصريون من قديم.. هم أصحاب نكتة، وروح دعابة.. لدرجة أنه قيل عنهم إنهم يقابلون المصائب بالإبتسامة، ويواجهون الأزمات بالضحكة، ويتعاملون مع الكوارث بالنكات.. ولربما يطلقون النكات بحق أنفسهم إذا وصلت الأمور إلى طريق مسدود!
بعد هزيمة 1967، تعامل المصريون مع النكسة بالنكات.. وسخروا من قيادات الجيش.. كأسرع وأقوى أسلوب للتعبير عن الغضب والسخط… وفي بدايات حكم السادات.. وبسبب حالة الغضب التي سادت بين جموع المصريين، سيما الشباب، لاعتقادهم بأنه لا يفكر في خوض الحرب ضد إسرائيل للثأر من الهزيمة، ولذلك فقد أطلق مصطلح "عام الحسم"، لكنه لم يفعل شيئا.. وثار ضده الطلبة.. فيما أطلق ضده أفراد الشعب عشرات النكات!
هؤلاء هم المصريون.. يسخرون من أنفسهم ومن إخوتهم في الوطن.. لكنهم يحترمونهم ويحبونهم، ويتعاملون مع المتميزين منهم بكل احترام.. فهذا رفاعة الطهطاوي.. وطه حسين.. وعباس محمود العقاد.. وعبد الرحمن الأبنودي.. وأمل دنقل.. وجمال عبد الناصر.. وعبد الباسط عبد الصمد.. وياسين التهامي.. والشيخ أحمد الطيب.. وجمال الغيطاني.. وغيرهم كثيرون جدا.. يحتلون مكانة الصدارة في قلوب المصريين جميعا.. فلا يكاد يختلف اثنان على احترام أيٍّ من هذه الأسماء.. وغيرها من أبناء الجنوب.
في حالة الصعايدة، لا يكاد يغضب أحدهم من النكات التي يسمعها تتردد بحقهم، بل وقد يشارك البعض منهم في وصلات المزاح والسخرية!! أي إن الأمر صار معتادًا وغير مستغرب.. بل جزء من الحياة اليومية!
السودان.. لماذا يدعم إثيوبيا ضد مصر؟!
الموقف يزداد صعوبة، بل وينقلب إلى أزمة مستحكمة، ومشكلة مستعصية في حال ما إذا جاءت السخرية والنكات بحق جنسية أخرى غير المصريين.. فهؤلاء لا يتقبلون بسهولة هذا الأسلوب، ولا يتصورون أنها عادة متجذرة لدى كافة المصريين.. بل يتخيلون أنها مؤامرة مقصودة، وخطة متعمدة.. ومن هنا تتراكم في نفسيات الشعوب الأخرى، عربيًّا وأفريقيًّا، تداعيات مؤسفة، وأفكار مؤلمة، وتتأثر العلاقات البينية على المستوى الشعبي!
المؤسف في الأمر، أننا لا نولي ذلك الإهتمام المطلوب، بل ليس هناك أي اهتمام، على كافة المستويات، ومع الزمن تستمر المشكلة في النمو ككرة الثلج.. ثم تطفو على السطح لدى أقل تصادم على مستوى الدول.
وفي كل مرة يحدث صدام نفاجأ بتعليقات غريبة، وصادمة وإخوة كنا نظنهم "حبايب".. وهنا يأتي دور الإعلام "الجاهل"، ليقابل الإساءات بأشد منها، وتنظلق حملات المن والأذى، ويتبارى الإعلاميون في التذكير بأيادينا البيضاء على الأشقاء في الشرق والجنوب والغرب، وأن مصر أم الدنيا، التي علمت وآوت وطورت وحررت، وأطعمت وكست..
وإنها أخرجت تلك الدول والشعوب من ظلمات القرون الوسطى إلى حضارة القرن العشرين.. ويتوسع البعض في التأكيد على أنه لا يوجد حضارة إلا في مصر ومن مصر، ولا عِلم إلا بها.
التصوير غير الملائم والذى يصل فى بعض الأوقات إلى التنمر سواء في الإعلام او الدراما او السينما، بل وفي الأدب، ينسف كل محاولات القيادة لتجسير العلاقات.. ولذلك فإن داعي الوطنية وحب مصر يفرض علينا الإنتباه إلى تلك الكارثة التي تعد سببًا رئيسًا في معظم أزماتنا مع العرب والأفارقة.. وعلينا أن نراجع أنفسنا وسياساتنا الفنية والإعلامية في هذا الصدد.