محمد عبد الجليل يكتب: دموع في غرفة الصغير.. الأمطار ترشد الأب إلى جثة ابنه
في تلك الليلة الهائجة بصوت الرياح والمطر الغزير، وفيما يتحصن الناس بالمدفأة والأغطية من شدة البرد، يجلس إبراهيم بمفرده في شرفة حجرة ابنه نادر، دون أن يشعر بلسعة البرد القارس أو الأمطار الغزيرة، لأن حرارة قلبه المشتعل بنار القلق على نجله المتغيب جعلته لا يرى شيئًا في الوجود سوى صورة الطفل الذي ماتت أمه قبل 5 أعوام، أثناء ولادته، ولم يكن لها نصيب في الولد غير وصية أوصت بها أباه ليكون له الأب والأم والصديق والسند.
وبينما يتذكر الأب الكلمات الأخيرة لوصية زوجته بابنهما، وفي هذه الأثناء ضرب الريح كل شيء من حوله، النوافذ تكاد أن تتحطم من غضب الطبيعة الهائجة، والأب لا يبالي بشيء، ينظر فقط من شرفة حجرة ابنه نادر محدثا نفسه ما الذي يجعلني دائما أجلس في غرفتك يا صغيري، هل هو شعور بالذنب نحوك، أم إحساس بالراحة في الاستئناس بك، بالقطع أشعر بنسمات طيبة تملأ أنفاسي، هى بلا شك أنفاس روحك تغمرني فأسبح في حنانها.. أين أنت الآن. عد وأعدك بأن كل شيء سيكون على ما يرام، لن أدعك بعد اليوم لزوجتي الجديدة تضربك وتهينك وتقسو عليك كما قست عليك أيامك منذ أن ولدت يتيم الأم.
الأب ميسور الحال، وليس له وريث سوى الطفل الغائب، وقد تزوج حديثا بعد وفاة والدة ابنه، امرأته الجديدة حامل تنتظر أن تضع مولودا له، لكنه لن يعوضه عن ريح نادر الذي يشبه في ملامحه أمه، كل ما دار في فكره أن الولد "طفش" من سوء معاملة زوجة أبيه القاسية، كانت امرأة محبة للمال، يملأ الجشع قلبها، لم يدر بحقيقتها إلا بعد أن تورط في زيجة ظن أنها ستعوضه عن سنوات الحرمان، عندما تغشَّاها وحملت منه، طالبته بأن يكتب كل شيء لطفلها، وعلى الرغم من ضعف شخصيته أمامها، وتغاضيه المخجل عن معاملتها القاسية لنجله، إلا أنه أصر على رفض طلبها بحسم، وأخبرها أن المال للطفلين كما هو حق الله تعالى، فأوغر الحقد صدرها وأصبحت تفتعل الغضب ضد الطفل البرئ، مرة بسبب تأخره في اللعب خارج المنزل، ومرة بسبب المذاكرة، ومرة بسبب اللهو والضوضاء التي يحدثها، وفي كل من هذه المرات تنهال عليه ضربًا وصفعا، بينما الأب قليل الحيلة، يبرر الأمر كله لنفسه بأنها في مقام أمه ولها الحق في أن تتولى تقويم عوجه، لكن ما لم يدر بخلده أبدًا أن تمتد يد الحقد إلى القتل، وأن يزهق الشر روح طفل بريء ويأده هكذا في التراب.
المطر ينهمر من السماء التي فتحت أبوابها لتلفظ كل ما فيها من ماء، والريح المجنون يضرب بقوته المخيفة، يعبث بكل شيء في فناء المنزل الواسع، يبعثر نظام الأشياء في الحديقة، وفي هذه الأثناء، تلمح عين الأب شيئًا اعتاد أن يراه دائما في حجرة نومه، أخذ يركز بصره بحدة، لقد رأى هذا الشيء من قبل، نعم إنه طرف من ملاءة السرير يبدو ظاهرا بلونه الفاقع الذي تحبه زوجته، غادر "فراندة" المنزل إلى الفناء ليستطلع الأمر ظنًا منه أن الملاءة قد تكون طارت إلى الحديقة بفعل الرياح الشديدة، وجد طرفًا منها يخرج من الأرض المبللة بالطين والماء، جذبها، لكنها كانت عنيدة ترفض أن تطاوعه، وكأنها أرادت أن تستر سرًا لا تريد له أن يعرفه، استجمع كل قوته وجذبها، فخرجت أحشاؤها ومعها جثة نجله عارية، وقد وضعت على فمه كمامة لازقة منعت استغاثته، فيما كانت قطعة من القماش ملفوفة بإحكام حول رقبة الولد، كاد قلب الأب أن يتوقف عن النبض من الفزع والحزن، ها هي جثة ابنه مسجاة أمامه هامدة لا حياة بها، لماذا يقتل طفل في هذا العمر بهذه الطريقة الوحشية؟ وما هي إلا لحظات قليل حتى عاد إلى رشده وذهب عنه روع الصدمة، ما الذي أتى بهذه الملاءة إلى هنا؟ ومن الذي قام بلف جثة الولد فيها؟ لم يعد هناك سر في الأمر، كانت ملاءة السرير دليلا قاطعا أمام رجال المباحث وكافيا لمواجهة زوجة الأب بالجريمة، فلم تتمادى في الإنكار، واعترفت على الفور بقتل نجل وجها طمعا في الاستحواذ على ماله لطفلها الذي ما زال لم يأت بعد إلى الدنيا، وقالت إنها انتهزت فرصة غياب الأب خارج المنزل واستدرجت الطفل وخنقته بقطعة قماش، وعندما عاد أبوه من الخارج أخبرته بأن الولد خرج للهو ولم يعد.
كانت اللحظات العصيبة تمر على الأب في مشرحة زينهم كدهر كامل ترفض ساعاته أن تمر، في انتظار خروج جثمان الولد الذي أمرت النيابة بالتحفظ عليه لإعداد تقرير الصفة التشريحية عن وفاته، وعندما خرج الجثمان كانت صورة الابن ما زالت شاخصة أمام عين أبيه تعاتبه بنظرة وادعة حملت من القسوة بأكثر ما حملته من البراءة.