رئيس التحرير
عصام كامل

نهاية تليق بالصادقين.. طالبات مدرسة بأسيوط يودعن المدير بـ "الدموع"

المدير وسط طالباته
المدير وسط طالباته

صباح الخميس الماضي وقفت "علياء عادل" الطالبة في الصف الثاني الثانوي بمدرسة الخياط الثانوية للبنات بمحافظة أسيوط، تلقي النظرة الأخيرة على أبيها ومعلمها الأستاذ جمال ثابت، ساعات قليلة تفصله عن اليوم الأخير له بالمدرسة، كأن آخر قبس من النور كاد ينطفئ ببلوغه سن التقاعد وإخلاء طرفه في المدرسة.

 

 

بكت علياء وانتقلت عدوى البكاء بين الطالبات في الوقت ذاته، التفتت الطالبات وأعضاء هيئة التدريس حول الأب "جمال" مدير المدرسة منذ عام 2014، في مشهد قد لا يتكرر كثيرا في مدارسنا وربما لن يتكرر مرة أخرى.

منذ تولي مدرس الأحياء والجيولوجيا "جمال ثابت بداري" مهام منصبه كمدير للمدرسة منذ ست سنوات، دأب على تطبيق فلسفة خاصة يمكنها أن تحمل اسمه في تعامل مدير المدرسة مع طالباته خاصة وإن كن في مرحلة الثانوية، تلك المرحلة التي يصبح كل ما يحتاجه الفتى أو الفتاة أن يعامل من قبل الكبار على أنه ناضج وواعٍ ويمكنه تحمل المسئولية، ومن هذا المنطلق أصبح الأستاذ جمال مدير مدرسة "الخياط الثانوية بنات" "بابا جمال"، فكل بنت من الـ 1600 طالبة من المدرسة لديها أب في المنزل، وأب آخر داخل أروقة المدرسة، "أنا مخلفتش بنات عندي 3 أولاد، لكن كل بنت دخلت المدرسة تتعلم على مدار 3 سنوات تعليمها كانت بنتي وأختي وصديقتي" يتحدث الأستاذ جمال. 

 

مسيرة عمل المدير والأب والمعلم جمال ابن محافظة أسيوط بدأت في عام 1997، وربما قبل ذلك بعدة سنوات حينما تخرج من الجامعة، وجاءه التعيين كمدرس لمادة الأحياء في محافظة الوادي الجديد، مكث هناك حوالي خمس سنوات، ثم تقدم بالتماس إلى وزارة التربية والتعليم لينتقل إلى محيط سكنه، ويعمل في إحدى مدارس الدائرة، فكان الاختيار على مدرسة الخياط، ربما لحسن حظ طالبات هذه المدرسة، "أنا دخلت المدرسة دي من 23 سنة، تدرجت فيها من مدرس لمدرس أول ثم معلم خبير ووكيل ثم مدير لها، من أول يوم لي في إدارة المدرسة، قررت إني أكون والد لكل بنت في المدرسة دي، لفيت على كل فصل عرفت كل مدرس إزاي يتعامل مع كل طالبة لأنه الطلبة في السن دي بيحتاجوا من المدرس إنه ينزل لهم ويشدهم عنده فوق مش العكس، حتى تصل به للقيم التي تريدها". 

خلال سنوات عمل جمال منذ تعيينه عام 2014 وحتى تركه لإدارة المدرسة منذ يومين، كان برنامجه اليومي يختلف تمام الاختلاف عن نظرائه من مديري المدارس، وحتى أي موظف بالدولة، فمن الطبيعي أن يخصص الموظف عدد ساعات من يومه، في النهار لتقديم الخدمات الموكلة إليه، إلا أنه كان يخصص ساعات النهار والتي يتواجد فيها الطالبات داخل المدرسة للتواجد معهن وتتبع أية مشكلة يمكن أن تحدث لحلها، وما إن ينصرف الطالبات يعود لمكتبه ويباشر عمله الإداري: "أنا كنت تقريبا الـ 24 ساعة شايل هم المدرسة، ما كنتش بمشي إلا لما كل الطالبات تمشي، كنت مخصص فريق عمل بقيادتي نأمن جميع مخارج المدرسة للطالبات، لحد ما كل بنت توصل بيتها، لأني أبوهم ما كانش عندي فلسفة إنه مهمتي تنتهي بمجرد خروج الطالبة من باب المدرسة".

 

على مدار ست سنوات وبصورة يومية، وحينما تدق الساعة تمام السابعة إلا ربع صباحا، كان جمال يصل إلى مكتبه ويترك بابه مفتوحا، في انتظار طالباته إذا كانت طالبة تعاني من مشكلة شخصية أو دراسية تأتيه ولا تتردد، وهذا ما تؤكده علياء إحدى طالبات المدرسة: "هو كان صديق لنا وأب وأب حنون كمان، ما كناش بنخاف منه أو نتردد إننا نطلب شيء، حتى المشكلات الشخصية كان بيحلها لنا بدون استدعاء أولياء الأمور".

 

وهذا ما اتفقت عليه هبة طالبة أخرى في مدرسة الخياط: "مش هنسى عمري وقفته جنبي كأب لما مكنتش لاقية رقم جلوسي ومنهارة وقلب المدرسة علشان خاطري، هو نعم الأب ونعم المدرس".

 

أثر المحبة لا يمكن أن يزول، وأثر القيم الطيبة التي زرعها الأستاذ جمال في نفس طالباته، لاقت صداها وأثمرت في مثل هذا التوقيت من العام الماضي، حينما أتم جمال عامه الستين ووصلته أنباء عن اقتراب تقاعده، نظمت الطالبات مسيرات في حبه لإيقاف القرار وبالفعل تم تأجيله للعام الحالي، "أنا كان المفروض السنة اللي فاتت أتقاعد ولكن البنات وقفوا كلهم ومنعوا ده، لحد ما تم تجديد تعييني عام إضافي وهينتهي 9 مارس الحالي".

أيام قليلة ويترك جمال مدرسته وبناته وحياته التي وهبها لخدمة هؤلاء الفتيات، لكنه أراد أن يظل الخيط المتين الذي ربط بينهم على قوته: "أنا وعدتهم هاجي من فترة للثانية أشوفهم وأقعد معاهم زي ما كنت بشاركهم في أنشظة الرسم والفنون والإذاعة المدرسية وأتواجد معهم في كل شيء". 

 

الحفل الذي أقيم الخميس الماضي، لم يكن لتوديع الأستاذ جمال في أول الأمر، فهو حفل سنوي تنظمه المدرسة لعرض الأنشطة الطلابية التي تم إنجازها على مدار العام، وكذلك للاحتفال بعيد الأم، إلا أن إحدى الطالبات صعدت على المسرح، أمسكت بالميكروفون وأطالت النظر إلى معلمها، أطلقت الدمعة الأولى وسارت الفتيات على نهجها، تقدمت بالشكر والتقدير لكل ما قدمه الأستاذ جمال لها ولزميلاتها، "لقيت نفسي بعيط ما قدرتش أتماسك، شفت ثمرة تعبي ومجهودي وتأكدت إنه ربنا لما وضعني في المكانة دي أعانني عليها خير إعانة". 

الجريدة الرسمية