مات مرتين: خرجوا عليه.. فكيف خرجوا له؟
لبث الكفن على أرض المسجد فى سلام وسكينة وامتثل الميت بداخله لأمر الله، الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك، بينما ارتفعت قيمة وراية الأخلاق عالية فى سماء مصر الحضارة.
ذلك هو التجلى الحقيقي لما جرت ظهر أمس من مراسم وطقوس وإجراءات لتوديع رئيس مصرى حكم البلاد لثلاثة عقود أصاب وأخطأ لكنه أبدا لم يرتكب رذيلة الخيانة، ولم يفر هاربا حين أطاح به الشعب، مخدوعا بشعارات كاذبة كمنت خلفها مؤامرة حقيرة استهدفت إسقاط مصر الدولة في الخامس والعشرين من يناير قبل تسع سنوات.
حضور مصر الرسمية فى جنازة مبارك الذى رحل عن عالمنا عن ٩١ عاما، هو حضور الرقى والاحترام والإنسانية والتسامح والتسامى. هو صورة مصر الرزينة التى لا تحقد ولا تغل ولا تمثل بجثث رؤسائها... ولا بد أن العالم فى حيرة وفى دهشة من الطريقة التى تحولت بها مشاعر المصريين، من رئيس خرجوا عليه غاضبين أو متآمرين أو حالمين، الى البكاء على الرئيس ذاته والدعاء له والسير فى جنازة الوداع.
ليس هذا أوان مراجعة الكشوف، وبيان الصادر والوارد من المثالب والأخطاء، فإن الحكم العدل، الله فى عليائه، هو وحده من ينصب الميزان، ويقيم الحساب، لكن رحيل مبارك بكلمة الله فى الشهر ذاته الذى تخلى فيه عن حكم مصر بكلمة الشعب، خوفا على البلاد وحقنا للدماء، يمثل نهاية كاملة لصفحة مضطربة من صفحات مصر. نعم احتاج المصريون ما يزيد على أربع أو خمس سنوات، حتى أدركوا أن ما جرى كان حرقا للوطن، وليس مجرد إسقاط نظام. كان إحلالا لجماعة إرهابية وليس إسقاط رئيس.
كانت الدولة المصرية التى حفظها جيش مصر مثالا محترما فى اتخاذ القرار الذى يوقر أحد أبرز أبناء القوات المسلحة، فأصدرت الرئاسة نعيا أاصدر الجيش نعيا، وكان لذلك أثره فى تغيير الخطة الإعلامية المهينة السخيفة التى ظهرت ملامحها فى التغطية الإعلامية الباردة للقناة الأولى. تغير الوضع تماما حين أعلنت الرئاسة الحداد العام في البلاد لثلاثة أيام. انطلقت المحطات فى رثاء وتمجيد وتذكير واستدعاء للصور والأفلام والبيانات.
لم يشهد مبارك منذ تخليه عن الحكم وطيلة سنوات من المحاكمات والحبس والمرض ولو دقيقة واحدة مما أذيع عنه بعد وفاته بساعات.
يشعر الشعب بأن قرارات الرئيس السيسى بإقامة جنازة عسكرية لمبارك، مصحوبة بنياشين الرئيس الراحل، ملفوفا فى علم الوطن الذى قاتل من أجله وحارب وانتصر فى حرب أكتوبر، هى انعكاس مشرف لأخلاق ابن البلد، ابن الأصول، الشهم الراقى المشاعر.
حين يحكم مصر رجل لا يحمل حقدا، ولا غلا، بل قلبا ينبض بالإنسانية، فإن الخير والبركة والسكينة هى الثمرات. هذه الأخلاق الرئاسية الكريمة سوف تشجع المجتمع المصرى المتوتر عصبيا المتحفز نفسيا على طى هذه الصفحة الكريهة واستعادة الروح الرقيقة اللطيفة المتسامحة.
لقد اختلف الناس على مبارك أواخر عهده، وطوال فترات محاكمته، لكن وفاته وحدت مشاعرهم وأطلقت دموعهم وتذكروا له طيباته ووطنيته، أما الحساب فأمر صاحب الحساب وحده، الله الواحد القهار.
لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار.. ربما تلقى مبارك في مثواه سؤال السماء.. وربما كان ذلك رده القاطع المتمثل.. الحكم محنة.. وفتنة.. والعاقل من اعتبر.