"بيت القبطي" قبلة مسلمي أهالي قنا.. صنع منابر المساجد وأنار مقابر المسلمين | صور
مع نسمات الصباح وزقزقة العصافير يستيقظ الرجل العجوز الذي قارب على الثمانين عاما، مرتديا جلبابه الصعيدي وعمامته البيضاء.. يجلس أمام منزله الصغير المكون من عدة غرف للورشة وغرفة واحدة بها سرير وموقد يشعله ليلا للتدفئة بين أقرانه الذين يأتون إليه من كل حدب، من بينهم الشيخ فاقد البصر.
ورغم أن رحلتنا في البحث عن ذلك الرجل لم تستغرق كثيرا، فهو بالنسبة لأهالي قريته علم ومنزله يشار إليه على اعتبار أنه أقدم نجار سواقي ومنابر ومحاريث وتوابيت، ومنزله يعرف بـ "بيت القبطي".
فعند الدخول إلى حارة صغيرة في مدخل قرية العقب التابعة لمركز قوص جنوب محافظة قنا، وجدنا العم فوزي سعيد ميخائيل صاحب الـــ79 عاماً، تجاوره منضدة خشبية و"قيروانة" ممتلئة بالحطب والخشب للتدفئة وسرير ودولاب خشبي يضع فيه لمبات جاز ويضع براد الشاي على وابور قديم.
ما إن جلسنا إليه، حتى انطلق يسرد قصصًا وحكايات من الزمن الجميل الذي كانت تسكنه أرواح الطيبين.. لايعكر صفوهم شيء.. ولم تغلبهم متاعب الدنيا ولم تؤثر فيهم عذاباتها.
"فيتو" التقت العم فوزي ليسرد لنا قصصًا يرويها لأول مرة في حياته.
السواقي والمحاريث والعود
كانت البداية في عملي كنجار أصنع هذه الأدوات التي كان يستخدمها المزارع في عمله.. ووقتها كنا لا نتقاضى نقوداً بل المقابل هو الغلال.. فالساقية في البداية كانت 52 ترسًا، وبعدها انتشرت موضة جديدة 60 ترسًا، وبينها ترس صغير وأربعة صلبان من فوق وتحت، ويتم إدخال السهم وخشبة تسمى "راجل".. وبالفعل هو اسم على مسمى.. وشاهد حق كان يطلق عليه في ذلك الوقت.. ويتم وضع "زرنوق" خشبي في الأرض ووضع الأخشاب والتروس عليها لوضع الساقية.. وبعدها يتم وضع البقرة التي تدور، لافتاً إلى أنه توارث المهنة عن الآباء والأجداد والأشقاء وحتى أبناؤه وأحفاده يعملون معه فيها.. وهذه مهنة عظيمة رغم شقائها إلا أنها تمثل متعة كبيرة لمن يحبها ويعمل فيها بصدق.
وأكد أن من أصعب الصناعات كانت السواقي فهي تحتاج إلى وقت ومجهود كبيرين حتى يتم تصنيعها.
محافظ قنا: لا تهاون مع أي موظف أو مسئول يقصر في عمله
وتابع حديثه معنا قائلاً: إنني في فترة من الفترات اضطررت للسفر إلى أسوان بعد أن ضاق بي الحال هنا في القرية.. وبعد نشوب العديد من الخلافات مع عائلتي.. وقررت السفر للعمل في "الجرمانية"، وهي مستشفى تابعة للهيئة الإنجيلية وكان الألمان هم من يشرفون على العمل بها، وكنت في ذلك الوقت قد تركت المهنة لفترة ولكن جاء أحد الأشخاص وكان يطلب مني عمل بعض الأعمال الخشبية وتمكنت من إجادتها، وهو ما كان يدعو للانبهار بي ومنذ ذلك الحين وكنت أعمل في الجرمانية والنجارة، إلى أن جاءني أحد الأهالي وطلب مني عمل "نملية" (دولاب خشبي لوضع الأواني)، يعرف بهذا الاسم في الصعيد، وكنت لا أعرف التصميم، فسألت نجارا آخر مثلي ولكني وجدته لا يعرف فقررت عمل تصميم وقمت بتفصيله وكانت أعجوبة في ذلك الوقت.
وبعد أن أمضيت فترة في أسوان عدت إلى قنا وقررت الزواج والعمل في قريتي وكان الحال أفضل بعض الشيء، وعشت في هذا المكان الذي كان يعرف بأرض النصارى، وقمت بتعمير المكان وكانت إلى جواري جبانة المسلمين، وكانوا يدفنون موتاهم على لمبات الجاز وكنت أخرج معهم ومعي كلوبات لإضاءة الطريق لهم وما زالوا موجودين حتى يومنا هذا في الدولاب.
طالبتُ بإنارة جبانة المسلمين
وسرد عم فوزي القصة قائلا: "عندما جاء رئيس المدينة عند زيارته لنا لتفقد أحوال القرية.. استغللت الفرصة وطلبت منه كشافات للجبانة.. والجميع اعتقد أنها لجبانة النصارى ولكني وقتها قلت له: "لا يا عم إنها لجبانة المسلمين.. الناس مش بيشوفوا وهما بيدفنوا"، فقام بإحضار 10 كشافات وأمنني عليها حتى تم تركيبها في الجبانة.. ووقتها سعد الجميع بهذا العمل الذي رأيت فيه نورًا من الله يهديني إليه ولا فرق عندي في الأديان فدائماً نقول: "الدين للديان والحياة للجميع".
“ديارنا.. شغل إيدينا”.. مبادرة لتسويق منتجات نساء وفتيات الصعيد في قنا | صور
وفي رحلتنا التي أبحر بنا فيها العم فوزي إلى مسجد القرية وبيوتها، والجميع يصافحه ولايستطيع أن يفرق أحد بين مسلم ومسيحي فالجميع هنا يرتدي جلبابا واحدًا هو "الوطن".. وبدأنا الرحلة في إعمار بيوت الله.
وأكمل حديثه معنا قائلاً: "عندما كان يأتي إليَّ الأهالي لعمل منابر أو أبواب وشبابيك للمساجد على الفور، أنفذ؛ لأنه في النهاية كل شيء لله وهذه بيوته على الأرض، وحتى ساحات الصوفية بكل مشتملاتها من أبواب ونوافذ فضلاً عن أن تصنيع المنابر من الألف إلى الياء بكل النقوش والتركيبات الخشبية الدقيقة "الأرابيسك"، وتذكر قائلا: "منذ عامين كان هنا نجار في "حجازة" ترك المسجد دون استكماله وطلبوا مني، عبر صديق لي اسمه ميلاد، عمل منبر للمسجد، وبالفعل كان العمل على أفضل ما يكون.
نعوش المسلمين
ونوه إلى أنه يقوم بتنصيع "الحسينية" وهي نعوش المسلمين بتكلفة الخشب ولا يتقاضى أجرا عليها وحال وجود الخشب من الزبون أصنعه فقط له دون أي مقابل مادي، وأكتفي بالأجر من الله.
وهنا أؤكد أن علاقتي بالمسلمين أكثر قوة من النصارى والجميع يعتبرني شقيقا وأخا له.. و"هنا بيت الشيخ الذي آتي إليهم لأخذ البركة".. تربطني بهم محبة كبيرة منذ زمن وصنعت لهم أبوابًا ونوافذ الساحة الخاصة بهم، وأقوم بتصنيع المقرأة، وعندما يأتي إليَّ أي شخص لأي عمل يخص إعمار بيوت الله لا أرفضه وأعتز بما أقوم به وأخلص في عمله له وأتساهل في الكثير من النقود وهذا من فضل ربي.
وعن "الحوي"، يقول العم فوزي: "أحوي الملدوغ ففي الجبل هنا يوجد الكثير من العقارب والثعابين ويأتون إليَّ في أي وقت يجدونني هنا وهنا تربطنا علاقتنا قوية ولا يفرق بينا أي شيء وحتى إذا وقع أي خلاف مع بعضنا البعض كنصارى من يفضها المسلمون.
وعن أسرته يقول العم فوزي: لديَّ 4 بنات وولدان أحفاد وجميعهم تعلموا مهنة الأجداد والآباء ولا يزالون يؤدون نفس عملي في إعمار بيوت الله وهم حاليا يقومون بالتطوير والتجديد في مسجد القرية الذي صنعت منبره.