شيخ الأزهر.. رائد التجديد في العصر الحديث (2)
كان الشيخ العطار يتمتع بشخصية قوية، وعزيمة ماضية، وأخلاق حميدة، وأدب جم، وتمسك بالحرية، وامتاز بنقده المستمر للجو الثقافي في عصره.
وكان من ثمار هذه الدعوة الإصلاحية أن أنشئت المدارس الفنية العالية مثل: الهندسة والطب والصيدلة، والتي استحدثت في نظام التعليم المصري استجابة لدعوته وتطلعاته ومناداته المتكررة بضرورة التغيير وتأكيده بأن العلم هو السبيل الوحيد لنهضة مصر وتبؤها مكانة عُليا في مصاف الدول المتقدمة.
ولم تكن مئات المؤلفات في الطب والهندسة والفلك والرياضة والأدب وشتى التخصصات العلمية، التي سطرها علماء الغرب بلغاتهم المختلفة وترجمت إلى العربية في عصر محمد علي باشا، سوى نزول على مطالبات الشيخ العطار، الذي رأى ضرورة الاستفادة مما وصل إليه الغرب من تقدم علمي لإحداث طفرة في المجتمع المصري، ولعل هذه الجهود وغيرها جعلته أحد المشاركين الأساسيين في نهضة مصر الحديثة.
بالإضافة إلى ما سبق كان الشيخ العطار مؤمنًا بضرورة تلاقي الحضارات لإحداث تبادل ثقافي وعلمي يعود نفعه على شعوب العالم أجمع، ولذلك طلب من محمد علي باشا، إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا للاطِّلاع على أحدث ما توصل إليه العلم هناك، وبالفعل تحمس والي مصر للفكرة ووافق عليها، فاشترط العطار أن يكون تلميذه رفاعة الطهطاوي إمامًا لأعضاء البعثة التي كانت وجهتها العاصمة الفرنسية "باريس".
اقرأ أيضا: أفريقيا.. نمور بلا موارد (4)
وقبل أن تغادر البعثة إلى باريس، أوصى الشيخ حسن العطار تلميذه رفاعة بأن يفتح عينيه وعقله، وأن يحرص على تدوين يوميات عن رحلته، وقد عمل الطهطاوي بنصيحة أستاذه ودوَّن كل ما شاهده في بلاد الغرب، وهو ما نشره بعد عودته إلى مصر في كتاب سماه: "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".
كما يُعد الشيخ العطار أول صوت نادى بإصلاح الأزهر الشريف، عن طريق تدريس مختلف التخصصات العلمية فيه، وعدم اقتصار الدراسة على العلوم الشرعية فقط، وكذلك ضرورة الاجتهاد في العلوم الدينية لإيجاد فقه معاصر يتواكب مع احتياجات الناس في عصره وعدم الاكتفاء بالنقل عن السابقين، وهو ما جعل العلماء والمؤرخين يلقبونه بـ "إمام المجددين وقائد ركب المصلحين".
وقد لخص الشيخ العطار، مطالباته بإصلاح الأزهر وضرورة الاجتهاد في العلوم الدينية لإيجاد فقه معاصر، بقوله: "من تأمل ما سطرناه وما ذكرناه من التصدي لتراجم الأئمة الأعلام؛ عرف أنهم مع رسوخ قدمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية لهم اطلاع على غيرها من العلوم، حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع..
اقرأ أيضا: أفريقيا.. نمور بلا موارد (2)
وقد انتهى الحال في زمن وقعنا فيه من تقليد ونقل علوم، فوجدنا أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم، فإن قصارى جهدنا هو النقل عنهم دون أن نخترع شيئًا من عند أنفسنا، وليتنا نصل إلى هذه المرتبة، بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة.
وقد أثمرت دعوات العطار، ومناداته بضرورة الانفتاح على العلوم العصرية، والبعد عن الجمود، خيرًا كثيرًا ارتفع بالأزهر من مجرد جامع كان منغلقًا على تدريس العلوم الشرعية إلى جامعة ينهل منها العالم أجمع شتى صنوف التخصصات العلمية، فكان الإمام الراحل وبلا منافس رائد النهضة في العصر الحديث.
ويعد الشيخ العطار أول صحفي في تاريخ مصر، فقد كان محمد علي من المعجبين بجمال أسلوب الإمام الراحل في الكتابة، ولذلك عهد إليه تأسيس أول صحيفة مصرية وعربية وهي جريدة "الوقائع الرسمية" عام 1828.
وفي عام 1830 م.. 1246 هـ، عينه محمد علي شيخًا للأزهر، وكان في الخامسة والستين من عمره، ليصبح الشيخ السادس عشر للجامع الأزهر، وأول شيخ يتولى المشيخة من أصل غير مصري، وقد ظل في منصبه حتى وفاته بعد هذا التاريخ بخمس سنوات.
اقرأ أيضا: أفريقيا.. نمور بلا موارد (5)
حاول أحد الطلاب المتشددين أن يقتل الطبيب الفرنسي "انطوان براثيليمي"، المعروف بـ "كلوت بك"، أثناء تشريحه جثة في مشرحة مدرسة الطب بأبي زعبل، ولكن تلاميذه دافعوا عنه وحافظوا على حياته؛ فما كان من الشيخ العطار، إلا أن ذهب إلى مدرسة الطب أثناء أداء الطلاب الامتحانات، وأفتى أمامهم بأن الدين يبيح بل ويشجع على تعلم وتعليم الطب، وأخذ يشيد بفائدة هذا العلم في تقدم الإنسانية؛ فكانت هذه الفتوى مشعل نور أضاء لأبناء مصر طريق النبوغ والتفوق في هذا المجال.
ترك الشيخ حسن العطار تراثًا زاخرًا من المؤلفات والكتب تزيد على 30 مؤلفًا، منها كتاب في الصيدلة ألفه ردًا على "تذكرة داود الأنطاكي"..
بالإضافة إلى مجموعة من الرسائل العلمية في قواعد الإعراب والنحو والمنطق والاستعارة والبلاغة وآداب البحث والطب والتشريح والهندسة وكيفية عمل الإسطرلاب والربعين المقنطر والمجيب والبسائط (آلات فلكية كانت تستخدم في قياس دوائر الكرة وارتفاع الكواكب ومعرفة حركتها وتعيين مواضعها) وإتقان رسم المزاول الليلية والنهارية بيديه.
وللشيخ العطار، بجانب ما سبق من المؤلفات والكتب والرسائل العلمية، العديد من التصانيف في العلوم الشرعية والعربية والأدبية والطبية والرياضية والفلكية، منها على سبيل المثال وليس الحصر: حاشية على شرح الأزهرية في النحو، وحاشية على شرح إيساغوجي في المنطق..
اقرأ أيضا: أفريقيا.. نمور بلا موارد (1)
وحاشية على مقولات الشيخ السجاعي، وشرح تفسير البيضاوي، وحاشية العطار على الجواهر المنتظمات في عقود المقولات، وحاشية العطار على التهذيب للإمام الخبيصي، وحاشية العطار على جمع الجوامع في أصول الفقه، وحاشية العطار على شرح الآجرومية والسمرقندية، وديوان العطار وهو يجمع مئات القصائد التي نظمها الإمام الراحل، ونبذة في علم الجراحة والطب.
تتلمذ على يد الإمام الراحل المئات من الطلاب، وكان أبرزهم: رفاعة الطهطاوي، والشيخ حسن قويدر، والشيخ محمد عياد الطنطاوي، والشاعر المصري الشيخ محمد شهاب الدين، والذي كان مساعدًا له في تحرير الوقائع المصرية وخلفه في إدارتها.
بعد خمسة وستين عامًا قضاها في خدمة الإسلام والمسلمين والبشرية، حاملًا مشاعل التنوير والإصلاح والتجديد، أسلم الشيخ حسن العطار روحه إلى بارئها في الثاني والعشرين من مارس عام 1835 م، 1250 هـ.