"غيوم فرنسية".. لحظة تمرد على المسلمات
قبل أن تقرأ رواية «غيوم فرنسية» للروائية ضحى عاصى والصادرة مؤخرا عن دار ابن رشد، عليك أن تنفض عن ذاتك غبار المعرفة المُلقنة، وانجرف بعقلك بعيدا عن الطرح النقدى العام المُلصق بها بأنها تناقش سؤال الهوية فقط .. اترك لنفسك مساحات أكثر حرية وسر على نهج الكاتبة السردي الذى اختارته لنفسها ناظرة إلى مساحات أرحب من الرؤية والتفكير بعيدا عن التعقيد والتنظير والأيديولوجيات الموصومة بالوعى الزائف .
بين دفتى الرواية المرتحلة بين مصائر القاهرة التى تئن لحما ودما بمسلميها وأقباطها فى نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، من طغيان ليس فقط الحكم العثمانى وقبضة المماليك وإنما رضوخ الكنيسة القبطية والأزهر والأعيان للحفاظ على مكتسبات سلطة واهية وربما منجزات تسقط مع تعارض مصلحة الغازي الذى يتغنى بدماء ذبائحه ويتراقص على عرض الأرض ، ومنها إلى فرنسا الثورية المرتبكة أيضا والتى ترفع شعار الجمهورية والمساواة والإخاء والحرية .
تدفعك كاتبة «غيوم فرنسية » إلى البحث فى نفوس هؤلاء النفر – مسلمين ومسيحيين- الهاربين مع المعلم يعقوب صاحب الفيلق القبطي ، من جحيم المماليك والعثمانيين فى أعقاب فشل حملة بونابرت لاحتلال الشرق مع سفن الحملة إلى المجهول، حالمين بفرصة للنجاة فى حياة جديدة رفعت الثورة الفرنسية شعاراتها، تدور الرحى على صفحات الرواية كاشفة أن الطغيان واحد على أي أرض كانت، فالثورة الفرنسية التى انطلقت بلا رب ولا سيد، متمرده على دينها الأصلى بدين ثوري يرفع لافتات «معابد المنطق» على كنائسه، سرعان ما تغير، فبعدما كان اللا متسرولين هم وقود الثورة وأبناؤها الشرعيون دارت عليهم الدائرة وأنتجت طبقة سياسية جديدة وزعماء جدد كانوا يطالبون بحرية التعبير، أصبحوا بين عشية وضحاها مقاصل تحصد رؤوس كل من يخالفهم فى الرأى بدعوى الحفاظ على منجزات الثورة، والجنرال نابليون ابن كورسيكا تتكشف حقيقته ويسرق الثورة ليصبح ديكتاتورا جديدا ويشكل طبقته الراقية الارستقراطية من جديد.
ضحى عاصي: "غيوم فرنسية" تطرح سؤال الهوية ومحنة الاختيار.. وهذه حكاية إطلاقها من موسكو
تصدمك الروائية فى سردها الأدبى بأن للشعارات والمعتقدات والأسس الأخلاقية أيضا للفعل الواقعى الواحد أوجها متعددة ، فلا مسلمات لشيء وليس هناك حقيقة واحدة، كل يتغير وفقا للظرف الزماني والمكاني ، والأحلام أيضا قد تصبح كابوسا يصعب تخطيه بمجرد تحقيقها.
فـ «فابيان» الضابط الفرنسي الذى فقد إيمانه بمعنى الثورة بعدما تجرع الفرنسويون دماء أخوانهم فى كؤوس طبقة النبلاء الجدد، عقب وأد أحلام الحرية ، و «جين فلورى» الجارية لأحد مماليك القاهرة التى عاشت تحلم بالعودة إلى ديارها ولقى أهلها، لتدرك أن الحرية أقسى من العبودية متنميه عودتها إلى تحت أقدام سيدها المملوكى، و «زهرة» ابنة الشيخ محمد العطيفى التى تتزوج أحد الضباط الفرنسيين لتحمى نفسها وترفض حبها لـ« منصور حنين» لأنه قبطي على الرغم من أنها تعلم أن زوجها لم يسلم إسلاما صحيحا.
«فرانسواز» التى تمردت على مسميات الفضيلة التى أُوهمت بأنها مسلمات لتخلق لنفسها قاموسا جديدا بعيدا عن ظواهر طقوس الإيمان أو الثورة ، «فضل الله» الهارب من اشمل يا نصرانى والباحث عن المساواة والإخاء بتكوين جيش مصرى وطني يموت متجمدا بنهر ترزينا بروسيا ، و«محبوبة» التى ارتضت بالقهر والعذاب خوفا من رياح التغيير على يد الفرنسيس.
فـ«غيوم فرنسية» تطرح عشرات الأسئلة التى تحتاج إلى إعادة النظر فى التاريخ من جديد والتى يأتى من أهمها ما اختتمت به بخطابات نمر أفندى ودعوات ميلاد استقلال مصر عن أى محتل.