نادية لطفي.. مناضلة لا تطفئها الشمس
بداية غريبة لعام 2020 بين نذر حرب واضطرابات سياسية عالمية ومرض فيروسي يخشى العالم أن يتحول إلى وباء، ثم وفاة مجموعة من الفنانين، أحدثهم "جميلة الجميلات المناضلة" الفنانة الكبيرة نادية لطفي، آخر نجمات الزمن الجميل والفن الأصيل.
تتميز نادية لطفي عن سواها بتواضع جم، إنسانية لا تضاهى، وطنية غير مسبوقة، نضال عروبي، نشاط اجتماعي بلا حدود، وثقافة موسوعية تجلت في اختيارها أعمالا تحاكي المجتمع وتناقش قضايا مهمة حتى إن كانت مغلفة بإطار كوميدي، باتت معها "علامة فارقة" في تاريخ الفن المصري وتمتعت بمحبة وتقدير ونجومية غير مسبوقة على الصعيد العربي كله.
عند الاحتفال بمئوية السينما المصرية اختير أفضل 100 فيلم خلال القرن الـعشرين، أعلن عنها في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، كان لنادية لطفي وحدها خمسة أفلام بينها، أولها فيلم "المومياء" للمخرج شادي عبد السلام، وحل في المرتبة الثالثة، بعد حصده شهرة عالمية لمناقشته أحداث حقيقية عن سرقة الآثار الفرعونية، وجاء فيلم "الناصر صلاح الدين" في المرتبة الـ11، فضلًا عن أفلام "السمان والخريف، أبي فوق الشجرة، والخطايا".
اقرأ أيضا: صراع "العلمنة والأخونة" في تونس
إلى جانب نجومية الفن الطاغية ومواقف إنسانية لا تنسى مع زملائها، اشتهرت نادية لطفي بمواقف سياسية شهيرة، ونضال خلال الحروب المصرية منذ مطلع شبابها، حيث أوقفت أعمالها لتكون إلى جانب الجرحى خلال حرب 67، والنضال الكبير في حرب أكتوبر 1973، كما دعمت القضية الفلسطينية في كثير من دول العالم، وفضحت جرائم الاحتلال الإسرائيلي في لبنان وفلسطين ومخيمات اللاجئين، وكانت خير داعم للمقاومة في البلدين.
وثقت نادية لطفي بكاميرتها جرائم الاحتلال الإسرائيلي خلال حصار بيروت، وزارت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات متحدية حصار الاحتلال، ودعمت المقاومة الفلسطينية، وحين غامرت بحياتها لنقل انتهاكات وجرائم إسرائيل ضد الأبرياء العزل في "صبرا وشاتيلا"، إلى العالم كله، كتبت الصحف العالمية: "لم تكن مع نادية لطفي كاميرا، بل مدفع رشاش في مواجهة الاحتلال".
بعد فك الحصار، زارها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في منزلها وأهداها شاله، تقديرًا لموقفها الداعم للقضية الفلسطينية ونضالها ضد الاحتلال، وتعريض حياتها للخطر عند توثيق جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين واللبنانيين. كما منحها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وسام القدس تقديرًا لمواقفها ونضالها تأييدًا للقضية الفلسطينية.
ومثلما دعمت الفنانة الكبيرة قضايا الإنسان وناضلت من أجل الحقوق العربية، لم تنس كذلك الحيوان، وسبقت فنانات جيلها بنشاط لافت دفاعًا عن حقوق الحيوانات.
اقرأ أيضا: نانسي وحمزة وحرب "الميديا"
تصدرت الفنانة نادية لطفي قمة السينما بمجموعة كبيرة من الأعمال الخالدة توجت بها مسيرة زادت على نصف قرن زاخرة بالوطنية والنضال والإبداع الفني، منذ اكتشفها المنتج رمسيس نجيب وقدمها في فيلم "سلطان"، وتنوعت بعده أدوارها بين الرومانسية، الأرستقراطية، بنت البلد، الراقصة، والمغرورة، من أشهر أفلامها "لا تطفئ الشمس" إخراج صلاح أبو سيف، تأليف إحسان عبد القدوس.
وشاركت عبد الحليم حافظ في فيلمي "الخطايا"، و"أبي فوق الشجرة"، ولمعت في أفلام النظارة السوداء، للرجال فقط، الناصر صلاح الدين، وغيرها الكثير إلى أن انتهى مشوارها السينمائي مع فيلم "الأب الشرعي"، واكتفت في مسيرتها الطويلة بمسرحية واحدة فقط، وكذلك مسلسل تلفزيوني بعنوان "ناس ولاد ناس" عام 1993، ناقش قضايا الأسرة في إطار كوميدي، من تأليف بهجت قمر وإخراج عادل صادق. كما أنتجت بسخاء لافت فيلما تسجيليا بعنوان "دير سانت كاترين".
عانت الفنانة الراحلة خلال مسيرتها من أزمات مرضية عدة، غير أنها اعتبرت أن المرض يعلم الإنسان أمورا عدة، وأنها تعلمت منه الصبر والتغلب على الأوقات الصعبة، وتجلت إنسانية نادية لطفي مجددا حين عرض عليها المسؤولين أن تعالج على حساب الدولة تقديرا لعطائها الفني الكبير ونضالها ووطنيتها طوال حياتها، فاعتذرت لأنها ميسورة الحال وهناك فقراء أحق منها بالعلاج على حساب الدولة، واختارت العلاج في أحد أجنحة مستشفى القصر العيني، الذي ساهمت بتبرعها الكبير في إعادة تأهيله وتجهيزه..
وبعد فترة انتقلت إلى مستشفى المعادي العسكري لاستكمال العلاج لكونه أكثر ملائمة لحالتها الصحية، وبعد أيام من احتفالها في المستشفى بعيد ميلادها الثالث والثمانين، توفيت زوجة ابنها الوحيد أحمد البشاري، فأبت الفنانة الكبيرة إلا أن تغادر المستشفى رغم معاناتها، للمشاركة تشييع زوجة ابنها وحضور الجنازة..
ولدى عودتها المستشفى كانت أصيبت بنزلة شعبية حادة أدخلت على إثرها العناية الفائقة، أعقبها غيبوبة استعادت خلالها وعيها لوقت بسيط تحدثت فيه مع من حولها وتمنت أن يتذكرها الجمهور من خلال أعمالها وأن يدعو لها دائمًا، لتعاود الغيبوبة ثانية حتى أسلمت الروح إلى بارئها، لتتحول منصات السوشيال ميديا إلى دفتر عزاء في آخر أيقونات الزمن الجميل، على أمل أن تقدر وزارة الثقافة تاريخها ونضالها وتكرمها بما يخلد اسمها.