ماركة قديمة
بعد موجة الغلاء التى صاحب تدشين برنامج الإصلاح الاقتصادى فى 2016 حدثنى أحد أصدقائى وهو أستاذ بكلية الطب.. وأخبرنى بأنه عاصر "انتفاضة الخبز" التى وقعت فى منتصف يناير عام 1977م؛ والتى أطلق عليها السادات "ثورة الحرامية"، حيث جاءت هذه الانتفاضة كردة فعل عنيفة للقرارات "التقشفية" التى أعلنتها الحكومة بتعليمات من صندوق النقد الدولى آنذاك، وبعد وعود الرخاء التى أعطاها السادات لجموع الشعب.
خرج الثوار ينددون بالغلاء، ويعبرون عن واقعهم المأزوم بعدة شعارات أهمها "هو بيلبس آخر موضة.. واحنا بنسكُن عشرة فى أوضة" "سيد مرعى يا سيد بيه.. كيلو اللحمة بقى بجنيه"، وعلق صديقى قائلًا: "اشتريت كيلو اللحمة لما كان بجنيه فى السبعينيات، وامبارح اشتريته بـ160 جنيها.. ويا ترى لو طال بى العمر، ممكن اشتريه بـ 1000 جنيه؟!".
اقرأ أيضا: سياسات الإصلاح فى مصر.. هل نجحت؟!
لقد لطمنى صديقى بصفعة قوية على الذاكرة.. أعادتنى بقوة إلى طفولتى المنسية، وألقت بى بعيدًا عن صراعتنا اليومية مع الدولار واليورو، فلم أكن أُدرك قبل هذه اللحظة أننى قد "شختُ" إلى هذا الحد.. وربما أصبحت ماركة قديمة.. !
فلا يزال يلهو بداخلى ذلك "الطفل" البريء، المولود على شاطئ النهر فى جزيرة منسية، داخل "الصعيد" المُتجاهل منذ مئات السنين، إبان الانتصار على عدونا الإسرائيلى الغاشم.. فأنا هو ذلك الطفل الذى وُلد مع طلقات الانتصار والتحرر، وأنا ذاته الذى شهد الولادة الأولى لأى نظام اقتصادى، فقد انطلقت معظم الأنظمة الاقتصادية من فكرة "المقايضة".
قليلون فى قريتى هم الذين كانوا يمتلكون "العُملة المعدنية" أما "العُملة الورقية" فكانت بمثابة "حُلم" يداعب فقراء القرية.. الذين فتح لهم "السادات" آفاق التحرر من أتون "الفلس" والمليم والتعريفة، إلى عالم أرحب وهو "الريـال" الذى كان يساوى حينها عشرين قرشًا، واختفى بظهور "الربع الجنيه المخروم"! حين سُمح لهم بالهجرة إلى بلاد النفط؛ فعادوا منها ببعض من العُملات الورقية، وراديو ترانزستور، وجلباب أبيض قصير ببنطال، ولحى مُطولة!
فخلال الأربعين سنة الماضية فقط -وربما أقل- شهدت مصر تطورًا مخيفًا وسريعًا لعُملاتها، حيث زاد وتنوع عددها، وتراجعت قيمتها بين عملات الدول الأخرى.. وكأن الذين كانوا يعيشون قبل السبعينيات على هذه الأرض، لم يمارسوا قط، عمليات البيع والشراء!
فكنا نقايض السلعة بالسلعة.. وكانت الأمهات يجهزن فتياتهن للزواج بـ"البيض والدجاج" وبعضٍ أكواز "الدُرة" الجافة.. كنا نشترى كُسوة العيد ببلح النخيل وجريده، وخزين القمح والذرة والترمس والسمسم.. كانت أُجرة "المزين" والنجار وألحانوتى "موسمية "، وكانت عبارة عن بعض من عوائد الحصيد، من أكواز القمح والذرة والفول السودانى.. وكان المحصول الوحيد الذى لا يُقايض عليه هو "القطن" فقد كان كـ"الذهب" لا يزرعه ولا يملكه سوى علية القوم!
يبدو أننى "شختُ "كما شاخ حولى كل شيء، حتى "المشاعر والأحاسيس".. حيث تغيرت أسماء العُملات.. فمنذ أربعين سنة أو أقل كان "الجنيه" الورقى فى ذاته حُلما للبسطاء والعامة.. وكانت الـ "100" ثروة؛ يورثها الفقراء لأبنائهم.. وكان الذى يمتلك "مليون جنيه" مليونيرا، وليس "حافيًا" كما هو الحال اليوم!
كان "القرش" هو مصروفنا اليومى فى الدراسة.. فبه نشترى أرغفة "الطابونة " وأقراص الطعمية الساخنة.. بل كانت "البيضة " مصروفًا يوميًا لمعظم تلاميذ المدارس بمراحلها المختلفة.. وكان أغلب الطلاب يربون "فراخا" فى البيت؛ ليدخروا من بيضها مصروفًا يوميا لهم.. أما الذين تمكنوا من العمل فى الإجازة الصيفية، فكانوا يربون قطعا من إناث "الماعز" يكفى إنتاجها لسد المصاريف الدراسية، وشراء كُسوة العيدين!
لقد شاهدت فى طفولتى وحتى بداية الثمانينيات الصاغ "القرش" الأبيض والقرش الأصفر.. كما شاهدت "التعريفة " أو "النكلا" وكانت تساوى خمسة مليمات.. وكان لكل منهما قيمة شرائية معقولة.. وعاصرت أيضا "الستين فضة " التى كانت تساوى "قرشا + تعريفة " و"المية فضة " وكانت تساوى "قرشين + تعريفة ".. وعاصرت كيف كنا نقايض السمن البلدى باللحم!
لم نكن نعرف الميزان سوى فى المواسم.. فكنا نكيل "السمن" البلدى واللحم بـ"الرطل" و"الوقية " وكنا نقيس الأرض بدون متر.. فكنا نستخدم فى القياس ما يسمى بـ"القصبة " التى هى عبارة عن قطعة من جريد النخيل طولها ذراعان ونصف الذراع.. وكنا نكيل الغلال بـ"الكيلة " و"الرُبع" الذى هو نصف الكيلة والذى يساوع عددا من الصاعات المحسوبة.. وكان معظمنا لا يعرف كم تساوى الكيلة من الكيلوجرامات! كانت "عُملتُنا" من الطبيعة، وكانت سلعتنا من الطبيعة.. وكانت حياتنا بدائية بسيطة.. لكنها كانت سعيدة !
لقد عاصرت كيف كان المصريون يتهادون فى لحظات الشدة والمرض.. فكنا فى أبسط حالات المرض نتزاور ببعض من حبات "الليمون" وفى أفضل حالاتنا المادية نتزاور بقراطيس الشاى والسكر، وفى أشد حالات المرض، كنا نحمل إلى المريض زجاجة الكوكاكولا، حتى ظن البعض أنها نذير شؤم على المريض؛ فامتنعوا عنها!
وبدأت العُملة المصرية رحلتها مجددًا مع برامج الإصلاح الاقتصادى الهيكلى، التى بدأت مع منتصف الثمانينيات، بتعليمات أيضا من صندوق النقد الدولى، التى انتهى معها نظام "المقايضة ".. ومن هنا بدأ "القرش" رحلة الكفاح مع السلع؛ حتى أعلن هزيمته فى العام الأول من سنوات الإصلاح المزعوم! ودفناه فى ذاكرتنا، كما دفنا من قبله براءة الطفولة.. وسلم القرش الراية إلى "الجنيه" الذى بدأ هو الآخر "يترنح" أمام أتفه السلع، ودخل فى حرب ضرُوس مع الدولار، فتم طباعة عملة جديدة لم نكن نعرفها من قبل، من فئة الـ"50 جنيها" ثم فئة "100 جنيه" وصولًا إلى فئة الـ"200 جنيه".. فما كنا نشتريه فى السبعينيات بـ"البيضة " الواحدة، ربما أصبحنا نشتريه اليوم بالـ"50" جنيها، وربما بجودة أقل!
اقرأ أيضا: عشة العمة محضية
لقد جاءت ثورة 30 يونيو لتنبئنا بأن اقتصادنا قد "شاخ" بفعل سياسات اقتصادية متخبطة، وحسابات مغلوطة، وقرارات متتالية غير محسوبة، فرضتها علينا مؤسسات دولية متآمرة، وغباء مسئولين غير مسئولين، تسببوا فى أمراض "الجنيه" المصرى حتى شاخ.. ويبدو أننا شخنا معه!.. فاتجهت إلى سياسات اقتصادية جديدة قد تعبر بنا الأزمة.. وتضخُ فى أجسادنا من جديد روح الشباب التى شاخت وشخنا معها!