التجديد في الخطاب الديني من عصر الصحراء إلى عصر الفضاء ..دراسة تحليلية للدكتور محمد المهدي عن الأزهر ودوره في التجديد
تلقيت دعوة كريمة من فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، لحضور مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي، تحت رعاية رئاسة الجمهورية والمنعقد يومي 27 و28 يناير 2020 م ، وقد كان المؤتمر حدثا هاما واستثنائيا يستحق القراءة التحليلية والإشادة والنقد الموضوعي لتعظيم الاستفادة منه في الحال والمآل .
أولا : العنوان : "مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي "، وهو يعكس شيئين هامين ، أولهما أن الأزهر على الرغم من أنه مؤسسة دينية رسمية على أرض مصرية إلا أنه يحمل رسالة إسلامية إنسانية عالمية، يشارك فيها كل علماء الإسلام في العالم ، ثانيا : استخدام حرف الجر "في" يعني أن التجديد لن يكون في مجمل الفكر الإسلامي ولكن في بعض جوانبه التي تستدعي التجديد وتسمح به .
ثانيا : الهدف : هل الهدف هو التجديد الذي هو بالضرورة سنة حياتية وكونية مع تغير الظروف والأحوال ، أم أن المؤتمر عقد استجابة لضغوط إعلامية ومجتمعية أو مطالبات سياسية انطلاقا من افتراض أن مشاكل التطرف والإرهاب المحلي والعالمي تعود في مجملها إلى الخطاب الديني ، وأن ثمة تلميحات تشير إلى التقصير في مواجهة الفكر المتطرف والأعمال الإرهابية بخطاب ديني جديد يساعد الدول في معركتها مع التيارات الدينية ؟ .
وقد كانت هناك حملات إعلامية من بعض الإعلاميين المحسوبين على التيارات العلمانية والليبرالية تحمل الأزهر - وحده – تبعات التطرف والإرهاب ، على الرغم من أن مشكلات التطرف والإرهاب (حسبما يرى العلماء والمتخصصون) لها جوانب سياسية واجتماعية واقتصادية وتربوية كثيرة ، وليست متوقفة على الخطاب الديني وحده . وقد تطاول بعض الكتّاب على الأزهر وشيخه ، وربما نالوا من الدين الإسلامي ذاته وحملوه مسئولية مانعيشه من أزمات ومشكلات وصراعات .
ثالثا : التوقيت : تمر كثير من الدول العربية على وجه الخصوص في هذه المرحلة بصراعات وجود وتكاد تنمحي من الخريطة دول عربية بأكملها نتيجة تلك الصراعات ، وهناك تغيرات عميقة في الهويات والإنتماءات والأيديولوجيات والأولويات تكاد تعصف بالعقل العربي والوجود العربي ، وبما أن المنطقة العربية تشكل قلب العالم الإسلامي ومحوره ، إذن ينسحب هذا الخطر على العالم الإسلامي ويشكل تهديدا له .
وعلى المستوى الإنساني العام حدثت تطورات هائلة تستوجب التجديد ، فالانبثاقة الأولى للإسلام كانت في أرض الجزيرة الصحراوية، وانتشر الإسلام بعد ذلك شرقا وغربا وفي كل أنحاء الأرض ، وشارك المسلمون في البناء الحضاري الإنساني بحظ وافر خاصة في مراحل الإزدهار الحضاري الإسلامي ، ثم انتقلت البشرية نقلة هائلة حين اخترق الإنسان الفضاء الكوني بجسده وآلاته، واخترق الفضاء الإلكتروني بعقله ووعيه ووجدانه ، وهذه النقلة من الصحراء إلى عالم الفضاء (الكوني والإلكتروني) بالضرورة تستدعي تجديدات في الخطاب الديني ، خاصة وأن الإسلام كدين خاتم في طبيعته الأصلية القدرة على مواكبة تطور البشرية إلى أن تقوم الساعة .
رابعا : الحضور : حضرت الدولة المصرية بعدد كبير من رجالاتها ورموزها وكان على رأسهم رئيس الوزراء ، وحضر الكثيرون من الرموز والقيادات الإعلامية ، وحضر وزراء ومفتون وقيادات إسلامية وشخصيات أكاديمية من أكثر من أربعين دولة على مستوى العالم ، وهذا يعكس قوة التمثيل والأهمية على المستوى المحلي والعالمي .
ومن الملاحظ أن المؤسسات الدينية الرئيسية في مصر كانت حاضرة وممثلة وفاعلة على أعلى مستوياتها فقد حضر السيد وزير الأوقاف وفضيلة مفتي الجمهورية ورئيس جامعة الأزهر جنبا إلى جنب مع فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر .
وقدم للمؤتمر مائة ورقة عمل تمثل رأيا عالميا في مسألة التجديد، ولكن غاب عن المؤتمر المطالبون بالتجديد والملحون عليه من رجال الفكر والإعلام ، وكانت الكلمات والمشاركات كلها من علماء الدين ، ولم توجد فرصة لمناقشات تفاعلية مع الجمهور الحاضر ، وهو جمهور كبير ومتنوع وكان يحوي علماء ومفكرين وإعلاميين ، وربما يكون هذا أحد الجوانب التي تحتاج تجديدا ، فقد غلب على الخطاب الديني صفة التواصل الأحادي، فالشيخ يتكلم والناس يستمعون ، وهذا النوع من التواصل لم يعد هو الأفضل في العصر الحالي الذي صار فيه المستمع شخصا له رؤية وعلم ورأي ومن حقه أن يستفسر ويسأل ويضيف ويقبل ويرفض .
خامسا : المكان والمكانة : عقد المؤتمر في مصر وفي رحاب الأزهر الشريف ، وهذا يدل على مركزية مصر ومركزية الأزهرفي العالم الإسلامي ، وهذه المركزية تحمل مصر والأزهر مسئولية العمل على هذا المستوى الكوني الرفيع، فالأزهر مازال هو الجامعة الإسلامية الأكبر في العالم حيث يحوي اثنان وثلاثين ألف مبتعث من أكثر من مائة دولة في العالم يدرسون العلوم الدينية، وهو مدرسة علمية شرعية تعددية تدرس كافة المذاهب دون تعصب وبشكل وسطي معتدل .
سادسا : الوعي بالثابت والمتغير في الخطاب الديني : كانت ثمة تأكيدات من المتحدثين من كافة الدول الإسلامية على أهمية التفرقة بين الثابت والمتغير في الدين ، فمن المؤكد أن العقائد والعبادات والأخلاق لا تتغير بتغير الزمان والمكان ، فكما ذكر فضيلة الإمام الأكبر : "المسلم الذي يعيش في عصر الفضاء يؤدي الصلاة كما كان يؤديها المسلم في عصر الصحراء"، فالصلاة هي الصلاة وأيضا الصوم والزكاة والحج وسائر العبادات .
والعقيدة بالضرورة لا تتغير ، والأخلاق مثل الصدق والأمانة والإخلاص وإتقان العمل والرحمة والتسامح والتكافل والإخاء والتعايش ، ستظل أخلاقا يعلي من قيمتها ويدعو إليها الدين في كل زمان ومكان .
وتبقى هناك مساحة كبيرة للتجديد تسدعيها متغيرات العصر وطبيعة العقلية المعاصرة ، وهذا يتحقق في الشكل والمضمون ، فمثلا من حيث الشكل أصبحت هناك وسائل تقنية هائلة تتيح انتشار الدعوة بشكل سريع ومؤثر وعصري يتقبله الناس بشكل أفضل من الطرق القديمة ، وهناك أنواع من التواصل التفاعلي الممارساتي متعدد الاتجاهات يناسب إنسان العصر الذي لم يعد يستسيغ الخطاب الديني اللفظي النصي التقليدي أحادي الوجهة ، ومن حيث المضمون هناك قضايا كثيرة في المعاملات وفي الحياة اليومية تحتاج لفهم عميق من علماء الدين ثم إيجاد حلول عملية تستند على فتاوى تربط بين مصالح الناس في الحياة العصرية المتطورة وبين متطلبات الدين ومقاصد الشريعة .
فإنزال الثابت منزلة المتغير هدم للثابت ، وإنزال المتغير منزلة الثابت تجميد للحياة وقتل للتطور الطبيعي الذي هو من سنن الكون ، والتجديد لا يكون تغييرا في النص ، بل في فهم النص ، ثم صياغة مشروك سلوكي فردي أو جماعي بناءا على فهم النص ، ثم تنزيل هذا المشروع السلوكي على الواقع الحياتي ، وهذا يستلزم فهم جيد للواقع وظروف الناس وأحوالهم ، ويستلزم الإلمام بعلوم أخرى مهمة مثل علم النفس وعلم الإجتماع وعلم التربية .
وهناك قضايا سياسية وقضايا اجتماعية وقضايا سياسية وقضايا طبية تحتاج لمثل هذه الجهود التجديدية والخروج بحلول مناسبة ، وعلى سبيل المثال : حرية المعتقد المواطنة ، التعايش ، قبول الآخر ، العولمة الثقافية ، صراعات الهوية خاصة للمغتربين والمهاجرين ، حرية إقامة الشعائر ، تحمل الإختلاف ، قبول الآخر ، تعاملات البنوك ، نقل الأعضاء ، التحول الجنسي ، الإستنساخ ، الديموقراطية .
سابعا : المجددون يحتاجون تجديدا : بعض المتحدثين في المؤتمر كانوا متقدمين في السن وبعضهم كان يتحرك بصعوبة بالغة ، وينتمون لمؤسسات حكومية رسمية ، وبالتالي فهم مقيدون بحكم السن أو بحكم الوظيفة بأطر تقليدية ثابتة في التفكير والتعبير ، وهذا ليس عيبا فيهم بل تفرضه ظروفهم العمرية أو الصحية أو الوظيفية التي تعتمد على الثبات وتتطلب الأمان والإستقرار والإنضباط بالقوانين واللوائح المعمول بها في وظائفهم . وربما لا يكونون هم أفضل من يقوم بالتجديد ، حيث أن التجديد يحتاج لطبيعة نفسية خاصة ولسقف عال من الحرية ، ولطرق تفكير تعتمد على التفاعل والعصف الذهني والقدرة على ابتكار الحلول غير التقليدية .
ولهذا السبب ضاع وقت كبير في الكلمات والعبارات التقليدية المحفوظة والطقوس البروتوكولية في الثناء والترحيب والتوكيد . وعلى الرغم من الحديث المتكرر عن التجديد إلا أنه كان ثمة وجل منه وتشبث بالمألوف والمعروف والسائد عبر القرون ، وكثرة الدوجمات ( المطلقات ) والأفكار المعلبة سابقة التجهيز . وربما تكون فلسفة التعليم الديني التقليدية ترتبط في مساحة كبيرة منها بالماضوية والنصية والخطابية ، وأنه يقوم على النقل أكثر مما يقوم على العقل ، وأنه يعلي من قيمة الإتباع على الإبداع .
ولهذا كان المجدد يأتي على رأس كل مائة عام كما ورد في الحديث " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" ، وواضح من الحديث أن المجددون قلة في العدد وذلك بسبب مايستدعيه التجديد من صفات وملكات وظروف خاصة . وقد غلب على الكلمات المقدمة صفة العموميات والملاحظات والآراء الذاتية ، وخلت من الدراسات والأبحاث المحكمة عن حالة الفكر الإسلامي وجوانب القوة والضعف فيه ، وعن حدود الثابت والمتغير ، وعن أحوال الناس التي تستدعي تجديد الفكر الإسلامي ، وعن القضايا المعاصرة التي تحتاج لرؤى وحلول جديدة . وهذا لا ينفي وجود متحدثين عظاما قدموا أفكارا مهمة تحقق هدف التجديد .
ثامنا : شخصية الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب ، كانت تشكل محورا مهما في هذا الحدث وماقبله ومابعده ، فهو يتمتع بسمات الهدوء والتواضع والعمق والبساطة والأدب الجم والنبل والإعراض عن توافه الأمور ، والزهد والتجرد ، والصلابة في الدفاع عن ثوابت الدين وتحمل الضغوط وربما الإساءات والتجاوزات في سبيل ذلك ، وهي سمات ممتازة يحتاجها من في مثل منصبه كي يحقق التوازن بين ما يحتاجه منه المجتمع وبين وظيفته الأساسية في الحفاظ على ثوابت الدين وتوصيله للناس في أفضل صورة .
وقد كان ومازال وجها مشرفا للإسلام في المحافل الدولية بفكره العميق وبساطته وسماحته ووسطيته واعتداله . وقد حرص الإمام الأكبر على حضور كل جلسات المؤتمر ، وقد أعطى هذا زخما وحيوية لكل الجلسات . وعلى الرغم من انشغالاته الإدارية والدعوية الهائلة إلا أنه يهتم بالكثير من القضايا الإجتماعية ويتفاعل معها ، فوجدناه يبدي ألما شديدا منذ أسابيع لموت الطفلة "جنة" من جراء سوء معاملة ذويها ، وأطلق حملة دعوية إعلامية قوية باسم "جنة" لتوعية الناس بالطرق التربوية الحديثة وحسن معاملة الأبناء ورعايتهم ، وأطلق قبل ذلك حملة لتحسين العلاقة بين الزوجين ، وشجع تبني الأزهر لبرنامج إصلاحي للأزواج المقبلين على الطلاق وللأسر المفككة ، واستفاد من هذه الأنشطة أعداد كبيرة من الأسر . وهذا الدور الدعوي الإجتماعي يعتبر في حد ذاته تجديدا في الخطاب الديني، وقد اختار الإمام الأكبر كوكبة من الشباب النشط والمبدع يقومون على هذه النشاطات وهو يدعمهم ويشجعهم بشكل مباشر .
وللإنصاف أيضا نشير إلى ما تقوم به دار الإفتاء تحت قيادة مفتي الجمهورية الدكتور شوقي علام من برامج تدريبية وتوعوية وورش عمل للمقبلين على الزواج، وجلسات حوارية نقاشية مع المتخصصين حول مشكلات الإرهاب والتطرف والقضايا الاجتماعية المختلفة .
وهذا توجه جديد في أحد أهم مؤسستين دينيتين في مصر، ونتمنى أن يتسع هذا الدور الإصلاحي الاجتماعي، وألا ينحصر دور المؤسسات الدينية على الجهود التعليمية الأكاديمية أو الوعظية أو الإفتاء، بل يتجاوز ذلك ويمتد إلى أعماق المجتمع ويتفاعل مع قضاياه ومشكلاته على الأرض، وهذا يتفق مع المنهج الإصلاحي والدعوي الذي قام به الرسل من قبل وهم يعيشون وسط الناس يعلمونهم ويتفاعلون معهم مقترحات :
1 – التجديد عملية ديناميكية تحتاج لاستمرارية ولن تتوقف على ماحدث في المؤتمر وإنما تعقد ورش عمل متعددة ومتتالية في أروقة الأزهر تجمع علماء ومتخصصين من المجالات الشرعية والاجتماعية والنفسية والتربوية والإعلامية والسياسية للمناقشة والتقرير والتفعيل .
2 – يتم إنشاء مركز للتجديد في الخطاب الديني بمشيخة الأزهر تتجمع فيه كل الجهود الرامية للتجديد في الخطاب الديني على مستوى العالم ، وهذا المركز يصدر مجلة دورية تحوي كل أفكار وخطط ومشروعات التجديد توزع في المراكز الإسلامية والجامعات والمكتبات على مستوى العالم .
3 – التحضير من الآن لمؤتمر آخر ربما بعد عام أو عامين تحت نفس العنوان لتقديم أوراق عمل تعكس خبرات عملية في التجديد ودراسات ميدانية حول هذا الموضوع .
وختاما نشكر كل من فكر وأعد وخطط ونفذ وشارك في هذا المؤتمر الهام ، وأن يكون بداية ونموذجا لتطوير وتمكين المجتمعات الإسلامية كي تعطي نموذجا إنسانيا رفيعا يحترمه العالم ويقدره .