عشة العمة محضية
لقد كان النيل قبلة المصريين على مر التاريخ.. مصدر للحياة والنماء.. وكانت علاقته بالمصريين علاقة خاصة جدا .. فى أشدها كانت تصل إلى حد العبادة ، وفى أضعفها سنوا قوانيناً تُوصِم من لَوث النيل بالخيانة ..!
قامت الحياة فى جزيرتنا على أربعة أركان أساسية، هى النيل والزراعة والسوق و"عِشَّة العمَة محضية" تلك العِشة التى تقف وحدها فى قلب القرية منذ عشرات السنين؛ لتشهد وحدها مع النيل أوجاع الفلاحين فى كل مساء.. حين يتوافدون بعد صلاة العشاء إلى تلك العشة العجوز التى لم ينالوا يوما شرف الدخول إليها.. وأخر ما يتحصلون عليه كوب من الشاي أو الينسون أو الحياقة على حصيرتها المفرودة أمام سِدِية عشتها!
سياسات الإصلاح فى مصر.. هل نجحت؟!
والسِدِيَةُ هى باب محبوك من الخوص، لا قفل له سوى قطعة من حبل مصنوع من ليف النخيل . وخلف السدية تجلس العمة محضية .. تلك المرأة التى لم نرها إلا عجوزا. وعشنا مع عجزها سنوات طويلة دون أن تتغير ملامحها ... نكبر نحن وننتقل من الطفولة إلى الشباب، لكن محضية كعشتها ظلت شامخة تقاوم أوجاع الزمن وتغيراته..!ورغم أنه كان لمحضية ثلاثة أخوة، إلا إنها كانت بالنسبة لنا كالنهر، لا يهمنا الفرع من أى شجرة أتى..!
لا يجد البسطاء متعة فى الحديث سوى على سِدِيَة عشتها المحبوكة أيضاً من الخوص وبعض من جريد النخيل .. وخلف السدية تجلس العَمّة محضية، التى لم تفارق عشتها منذ أن مات والدها. وبعد سنوات قضتها فى خدمة أخوتها، الذين غلبتهم أنانيتهم فلم يسمحوا لها بالزواج ؛ حتى تظل خادمة فى دارهم بلا أجر .. وحتى لا تأتى لهم بغريب يقاسمهم فى الورث..!
فقد كانت محضية ضحية للإرث الاجتماعي الملعون، الذى جرد المرأة فى الصعيد من كافة حقوقها الشرعية فى ورث أبيها .. وحرمها من أن تكون زوجة لها بيت وعيال وظِل .. ذلك الورث الذى اعتقالها خلف سديةِ عِشتها سنوات طويلة، لا يعزلها عن السماء سوى بعض أعواد من الخوص .. إذ تخلى عنها أخوتها وهى فى العقد الخامس، حين رحل الجمال وترك الزمن أوجاعه على خدودها الذابلة .. !
" محضية " تلك المرأة التى اعتقلت أوجاعها فى عيشة من الخوص لا تعرف عن القرية سوى الذى تسمعه من أحاديثالبسطاء المترددين على عشتها فى كل مساء. كانت أمنيتها الوحيدة أن يأتى اليوم الذى تمتطى فيه النهر فى العصاري .. أو تقِف على شاطئه فى لحظات الغروب، تراقب الصيادين وهم يفردون شباكهم فى باطن النهر .. تلك المتعة الممنوع على المرأة ممارستها فى الصعيد ..!
ورغم فصاحتها التى لا ينافسها فيها أحد عندنا، إلا انها كانت أُمية .. سألتها يوماًعما إذا كانت قد التحقت بالمدرسة فى صغرها أم لا ..؟ فأجابتني: بـ" لا " .. قائلة: أجيد القراءة ولا أعرف فنون الكتابة.. لكَنى استبدلتها بفنون الحكي .. وُلِدُت قبل أن يولد الجنيهُ بسنوات طويلة .. حياتنا كانت تقوم على المقايضة فى كل شيئ حتى فى المشاعر .. !
كنت كغيرى من بسطاء القرية، أؤمن بأن نعم اللهالتى بين يدينا ليست مِلكنا .. وإنما نحن أمناء عليها .. رغم أن الله قد منحنا الحرية الكاملة فى الأخذ والعطاء والمنع .. لازلت أؤمن بأننا لا نملك شيئا فى هذا الكون، وكل ما نحن فيه من نعم محض حق انتفاع ..!
ربما لا أجيد قراءة الحرف مثلكم، لكننىبارعة فى قراءة وجوه البشر.. ففى تجاعيد وجوه البسطاء رسائلٌ لا يقرأها سوى بصير .. ٍ!
لقد تعلم الناس الكتابة حتى يقرأون .. حتى أصبح للكتابةِشهوةٌكالحديث. فصار الناس كُتَابَاً لا يقرأون حتى الذى يكتبون ..!
فى حضرتها كنت دائما كغيرى من بسطاء القرية ألتزم الصمت .. وكنت أشعر أن فى داخلها الكثير .. وحين تتدفق أقوالها الحكمية يعلو صوتها، وأشعر كأننى فى معركة حتما سوف أخرج منها مهزوم ..!
كانت دائما تتهم مدارسنا بالفقر وأن جُعَبَنا رغم التعليم فارغة .. وأن التعليم قد فشل فى أن يملأها بما ينفع.. وذات يوم احتدم الحديث مع أحدهم .. فرد عليها قائلاً: ا أترغبين أن نغلق أبواب مدارسنا،ونأتى لنحكم بسطاء القرية بالجهل الساكن بين أسوارِ عِشتِك..؟!
غضبت العَمّةُ وقالت: ماذا تعرف عن الحياة يا ولد .. بماذا أفادكم التعليم وقد شاخت صدوركم من الدخان .. بماذا أفادكم وقد جعلكم عاطلين بالوراثة .. بماذا أفادكم التعليم وقد فشلت فى أن الرد على عجوز أمية مثلى بالحسنى ..؟! العلم يا ولدى الذى لا ينفع يضر..! والقلوب التى لا تعرف المحبة مُهيئةٌ للكراهية .. فالعلم يا ولدى كالحب .. كلاهما لا يُشبِعُ .. وفى كل منهما حياة..!
وهنا نظرت إليها متسائلاً: كيف ترين الحياة يا عمَة .. قالت الحياة يا ولدى ثلاثة أثلاث .. ثلاثانلا خيار فيهما. ثُلثٌ أيامهُ حلوة .. وثُلثٌ أيامه مُرَة .. أما الثُلث الثالث فمتروك لاجتهادات البشر.. لقد جئنا إلى الحياة وفى جيوبنا أيام معدودة من أقدار الله، هى أعمارنا .. نُخرِجُ منها كل يوم يوما، إن شئنا جعلناهُ حلواً وإن شئنا جعلناه مراً ..!الحياةُ فى جزيرتكم يا ولدى صارت كالغابة .. لا شيئ يستحق السعي فيها سوى لقمة العيش ..!
تغيرت القرية يا عَمَّة من حولك.. وعِشتك كما هى.... بنى الفلاحون بيوتهم بالحديد والطوب،وأدخلوا الكهرباء إلى غرف النوم والحقول .. ومازالت لمبة الجاز هى مصباحك المفضل .. لقد تقذمت عِشِتَكِ يا عَمّة، وبدت سوءتها بين البيوت.. لماذا لا تفكرين فى الرحيل إلى عالمنا الجديد.. ؟َ!
ضحكت محضية حتى أننى سمعت ضحكتها المحبوسة فى صدرها من سنين .. وقالت: أى رحيل تقصد يا ولدى.. وأى عَالم جديد تريدنى أن أرحل إليه .. عالمكم الذى أصبح فيه طابور المتسولين على أبواب المساجد أكثر من المصلين .. عالمكم الذى يزيد فيه أعداد العاطلين على المقاهى عن العاملين فى المصانع .. عالمكم الذى استبدلتم فيه زراعة القمح بأعمدة الخرسان.. عالمكم الذى حول النهر إلى مقبرة لمخلفاتكم وحيواناتكم النافقة.. أىُ عَالمٍ هذا الذى يتجاوز فيه أعداد المرضى أعداد الأصحاء..!
أُميةٌ أنا.. لا أجيد قراءة الحرف .. لست عَرَافة فأمهر فى قراءة الكف.. ولا أجيد وشوشة الحجر .. أنا إمرأة بسيطة .. لم يشأ الله أن يجعل لها جذور فى الأرض... لكننى على ثقة بأننى لم أتي إليكم عَبثا .. معى رسالة من القدر.. ربما لا أعرفها .. لكنها حتما ستصل ..!
أنا مزروعة خلف هذه السدية منذ سنين .. لا ونيس سوى الماء الذى أسمع جريانه تحتيحين أنام .. عِشتي كالجنة يجرى من تحتها النهر .. شربة ماء واحده منه كانت تشفيني من كل أمراضكم المستحدثة..
أخاف ان يأتي عليا اليوم الذى حين أنام فيه لا أسمع صوت النهر .. هلا عرفت لماذا أعشق النوم على الأرض دون حاجز بيننا سوى حصيرة من الحلف ومخدة من الليف ..؟! هلا عرفت لماذا احتفظت بعِشَتِي هنا فى قلب القرية ..؟! لا لشيئ صدقني سوى أن أكون قريبة من النهر الذى أشعر أننى امينة عليه .. وعليكم ان تكونوا أمناء مثلى .. !
انتحار البسطاء.. البديل الجيد للحياة!
وذات يوم ظهر لجزيرتنا مكان على خريطة المحافظة .. فقرر المسئولون أن يبنوا لنا مشفى أو وجدة صحية كما تسمى .. ونظرا لصغر الرقعة الزراعية هناك ؛ وامتناع الأعيان عن التبرع .. تردد المسئولون فى القرار .. حينها سمعت العَمّةُ الخبر، وقالت عندى امكان فى قلب القرية .. إنها عِشَتى .. فقلت لها: كيف ولا سكن لكى غيرها..! قالت: لا تراجعنى يا ولد فى القرار، ولا تقطع الجذر الوحيد الذى أوجده القدر ليربطني بالحياة.. أقيموا مشفاكم هنا.. لا عليكم بمحضية .. أعرف المكان الذى سوف أسكنه ..!
وحددت العَمّةُ اليوم الذى تُسَلِمُ فيه عِشتَها لتبدأ عملية الحفر .. ويوم الخميس لملمّت كل أشيائها فى صرة واحدة .. ودعتنيإليها وقالت: ألم يئن الوقتلئن أحققَ الحلم .. تاقت نفسى لرؤية النهر.. وخرجنا سويا تتوكأُ تارة عليا وتارة تتعكظ على عصاها العجوز.. مرت العمَة فى شوارع القرية كضيف غريب، لا تعرف تلك البيوت ولا تعرفها، إلى أن وصلنا إلى شاطئ النهر .. طالعت العمًة الصيادين فى لحظات الغروب .. توضأت وكأنه الوضوء الأخير .. وعدنا وقد توافد بسطاء القرية الى عشتها بطبيخ الخميس .. لم ترفض كعادتها أطباق البسطاء .. وقد أخبرتها بأنني مسافر فى صباح الجمعة .. نظرت إليَّ وقالت: انتظر حتى صلاة الظهر .. وّدَع عِشَتِي ثم ارحل..!
وفى الصباح جاء العمال لاستلام الموقع، والتف البسطاء حول العشة.. ليشاهدوا رحيل أقدم بيت فى جزيرتهم .. نادوا عليها ولم يتجرأ أحدُهم على الدخول .. ماتت محضية وفى يدها كوب من ماء النهر ..!