عميد "أصول الدين": تجديد الفكر الديني لا يجب اقتصاره على الأزهر.. والإسلام ليس فيه "كهنوت" | حوار
على مدى السنوات الخمس الماضية، تعالت مطالب «تجديد الخطاب الدينى» وأقيمت الندوات والمؤتمرات، وأدلى كل بدلوه فى محاولة شرحه وتأصيله وإيضاح معناه للناس، للحد الذى وصلت إليه الأمور بأنه أصبح معنى ملتبسا لدى رجل الشارع العادى وأصبح يستخدم من قبل رجال «النخبة» لملء ساعات الهواء عبر وسائل الإعلام المختلفة.
الأزهر الشريف، كان بطل تلك الدعوات والحديث عن تجديد الخطاب الدينى، وكان اختلاف الرؤى حول الجهود التى تقوم بها المشيخة نقطة الحوار، ففى الوقت الذى يرى فيه علماء الأزهر أنهم يقومون بدورهم فى عملية التجديد وأنه لا تتاح لهم القنوات والساحات الإعلامية للتعبير عن آرائهم وإيصال فكرهم الوسطى للناس.
على الجانب الآخر هناك من يرون أن المشيخة تقف «حجر عثرة» أمام جهود الدولة ومساعيها نحو تجديد الخطاب الدينى للحد الذى وصل للبعض بإقصاء الأزهر من معادلة تجديد الخطاب الدينى، وسعيًا منه لإدارك وتيرة تسارع الأحداث الأخيرة، بالإضافة إلى تلبية دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى لضرورة اقتحام هذا الأمر، دعا الأزهر الشريف مؤخرًا لعقد مؤتمر عالمى تحت عنوان «تجديد الفكر والعلوم الإسلامية»، تحت رعاية وحضور رئيس الجمهورية، من المقرر أن يقام نهاية الشهر الجارى.
«فيتو» فى إطار ملفها الذى تنشره حول "محنة الخطاب الدينى" حاورت بدورها الدكتور عبد الفتاح العوارى عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر ، حول قضية التجديد وما الذى يهدف الأزهر لتحقيقه من مؤتمره المنتظر وفتح باب النقاش حول أبرز المحاور التى تخص قضية تجديد الخطاب الدينى.. وكان الحوار التالي:
*بداية.. ما موقف الشريعة الإسلامية من «التجديد الدينى» الذى تزايدت فى الآونة الأخيرة دعوات المطالبة بتنفيذه؟
التجديد فى الفكر هو أمر مقرر شرعًا وسنة أخبر عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم- الذى تعد شريعته هى الشريعة الخالدة القائمة لجميع ما سبقه من الشرائع، حيث قال – صلى الله عليه وسلم: «يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها»، والتجديد للفكر الإسلامى أمر مطلوب ولا بد منه، لأنه لكل زمان وعصر قضاياه وأحداثه.
وكذلك متطلبات الحياة لا تتوقف عند حد، فالمولى - عز وجل- أنزل كتابه الخالد بدلائله وألفاظه التى تصلح لمعطيات الحياة ما بقيت الحياة، فعطاء القرآن فى كلماته لا ينفد، بل يمتد، وتحقيق ذلك ما ورد فى قوله تعالى: «وَلَوْ أنَّما فِى الأرض مِن شَجَرَة أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه»، فكلمات الله تحتوى من الأسرار الكامنة التى تؤدى غرضها فى كل زمان على حدة، فكلما حل بالأمة زمن من الأزمنة وفيه قضاياه المختلفة ستجد فى القرآن العلاج الشافى لأحداث ومقتضيات تلك القضايا، وكذلك فى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم- والتى تمثل المذكرة التوضيحية لما جاء فى القرآن الكريم.
*برأيك.. من المؤهل فى نظر الشريعة للقيام بأمر «التجديد»؟
الإسلام أعطى الحق لأهل التخصص ممن بلغوا رتبة الاجتهاد وتحققوا من أدواته أن يعمِلوا النظر فى نصوص الشرع من كتاب أو سنة أو قياس أو إجماع كما هو معلوم من الدين بالضرورة من مصادر التشريع المتفق عليها أو مصادر التشريع المختلف عليها بين الفقهاء والاستحسان والاستصحاب وعمل أهل المدينة ومراعاة أعراف الناس وغيرها من المصادر التى هى محل اختلاف بين الفقهاء.
ومن هنا نقول إن كل من تتحقق فيه هذه الشروط كان له النظر، وطالما أصبح كذلك عليه أن يعكف على دراسة تلك النصوص ليعرف كيف يستطيع الاستنباط الحقيقى لأحكام تأتي بها وتقضى بها مصالح الناس وتكشف لهم ما يريدون من علاج ومن فتاوى المستفتى فى أي مسألة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو غير ذلك من قضايا الناس وأحوالهم، لأنه من المعلوم أن القرآن الكريم حينما أتى فى علاج جوانب الحياة والمعاملات والعبادات والجنايات إلى غير ذلك إنما أتى فى الإجمالية، والقضايا الإجمالية تحتمل على جزئيات تكشف لأهل العلم وأهل الفضل عملا بقوله تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ»، ومن هنا نقول إن باب الاجتهاد مفتوح وباب التجديد فى الفكر الإسلامى مفتوح إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها.
*لكن هناك من يرى أن الأزهر الشريف يريد أن يعطي لنفسه الوصاية على أمر التجديد.. إلى أي مدى تتفق مع هذا الرأى؟
حقيقة.. لا بد من إيضاح أمر مهم هنا وهو أنه لا بد أن يقوم بالاجتهاد أهل التخصص الذين أفنوا أعمارهم حتى انزوت أعينهم فى مطالعة نصوص الشريعة وفى متابعتها والسهر معها والقيام بتدريسها وتعليمها وتعلمها وطول النظر فيها، وكذلك مرحبًا بكل من يكون مؤهلا لذلك، فلا يلزم أن يكون الأمر قاصرًا على الأزهر فقط.
فالبعض يقول إن الأزهر يريد أن يعطى لنفسه الوصاية، وهذا كلام غير صحيح، بل إننا نقول من كان مؤهلًا من أهل الفكر، سواء كان الإعلام أو التربية والتعليم أو الثقافية أو السياسية فى كل التخصصات، لأن الإسلام ليس فيه كهنوت أو ما كان يطلق عليه قديمًا «رجل الدين»، بل هناك علماء وهم موزعون فعلم الطب علم وعلم الإعلام علم وكذلك الحال الاقتصاد والهندسة والزراعة، فكل صاحب فن يتقن فنه هو فى نظر الإسلام عالم.
*هل من مقتضيات التجديد استبعاد التراث الخاص بالعلماء السابقين؟
يجب أن نعلم أن الأولين بذلوا جهدهم وأعطوا أنصارهم ما يحتاجونه من فكر، وهذا الفكر حينما نجدد نحن «الخلف» الذين لحقنا بهم وأراد الله لنا أن نأتى بعدهم بقرون لا ينبغى لنا أن نقول - مثل ما نسمع من دعوات- إنه يجب علينا أن نلقى التراث بعيدًا بحجة أن أصحاب هذا التراث عقولهم تختلف عن عقولنا نحن، فهذا جهل كبير فمن أنا بالنسبة لهؤلاء الأئمة الكبار الذين قدحوا زناد الفكر وأعطوا للأمة تراثًا ضخمًا من الثقافة يشيد به العدو قبل الصديق؟!
ولو قرأنا شهادات المستشرقين ممن ليسوا من أهل ديننا لوجدنا ما يجعل المسلم يباهى ويفاخر الأمم بتلك الثروة الفقهية التى تركها الأئمة العظام رضى الله عنهم، فإننا إذا أردنا أن نجدد فعلينا أن ننتفع مما تركوه من أصول، ونضيف عليها ما تنتجه عقولنا المنضبطة بقوانين الشرع وقوانين علم اللغة.
*البعض يتساءل عن طبيعة التجديد الذى يتطلع إليه الأزهر وما هى أدواته وأشكاله؟
دعنا نقول هنا إن التجديد ليس معناه أن ننشئ علمًا جديدًا، إنما معناه أن نكشف ما هو موجود ونفهمه، فقد يكون العلاج فى أمر قد قرر وأخذ حكمة من نص شرعي، لكن دلالة النص خفيت علينا، فلما ابتعدنا عنها عمى على الناس، حتى قال الناس: أين دور الأزهر؟ فحين نعود إلى ما تركناه ووجدناه نحن وننفض الغبار عنه ونقرأ ما كتبوه فهنا لنا الحق أن نفحص ونناقش ونرد ونعقب ونؤيد ونعارض فهذا هو التجديد المبتغى.
وقد يكون دلالة النص من قرآن أو سنة قد خفيت على الأقدمين فلم تصل إليهم وتصل إليها أفكارهم وعقولهم، فحينما نعود إليها نحن لنقرأها مرتبطين بقواعد الشرع واللغة والاجتهاد، فيمكننا أن نستخرج منها حكمًا لم يخرج من قبل فكل هذا من صور التجديد الذى نسعى إليه، وقد نجدد التجديد فى كثير من القضايا مثل الحكامية والإمامة والخلافة، فيمكننا أن نجد العلاج والحلول الخاصة بها فيما هو موجود بين أيدينا لكننا لم نكن من قبل قد قرأناها أو استطعنا إخراجه للناس فتعالج الحال الحالى الآن بما هو موجود.
*لكن هناك من يريد إبعاد الأزهر من معادلة التجديد ويحمله مسئولية ما آلت إليه الأمور.. كيف ترى ذلك؟
هؤلاء الذين يريدون إخراج الأزهر عن قضية التجديد هم واهمون ويعيشون فى خيال، لأن الأزهر مؤسسة وطنية عريقة منذ أن شاءت إرادة الله فكانت مصر مهدًا للأزهر فحينما ننظر فى التاريخ ونقرأ فيه، نجد علماء الأزهر شاركوا فى بناء الأوطان ومقاومة الاستعمار، وأقول لهؤلاء اقرءوا تاريخ عمر مكرم والشيخ محمد كريم فهولاء أبناء الأزهر الذين قادوا الثورات، وما كتب التاريخ عن زعيم واحد منهم أو عالم واحد منهم بعدما صنع ما صنع من أجل وطنه أن قال للشعب: «انتخوبنى رئيسا»، إنما الذى دفعهم لذلك هو الواجب الدينى حتى يبقى هذا المجتمع شامخا دونما نظر أن يتولى حكم أو غير حكم.
*فى مقابل التجديد الذى يعمل الأزهر من أجله هناك دعوات أخرى يتهم أصحابها الأزهر بأنه مبدد وهدام.. تعقيبك؟
من يزايد عن الأزهر فى هذا المقام واهم، أما وأن البعض يلقى باللوم على الأزهر والأزهر ليس وحده فى المجتمع بل هو مؤسسة وطنية تشترك معه التربية والتعليم والثقافة والعدل والشرطة والجيش ومجلس التشريع والاقتصاد، فكل هذه المؤسسات مسئولة عن التجديد، وليس الأزهر وحده الذى يلام.
فالأزهر ما قصر يومًا لن يقصر مع كونه لم يجد الأدوات التى يستطيع من خلالها بث الفكر الوسطى فى المجتمع، وفى الجهة المقابلة نرى أن أعداء الوسطية ودعاة التطرف والإرهاب أقيمت لهم قنوات وفتحت لهم سماوات حتى كاد الشعب يظن أن مرجعيته هؤلاء المتشددون الذين أصبح لهم الآن أحزاب سياسية.
*هل تتفق مع الاتجاه الذى يقول إن قضية التجديد أصبحت مسلكًا يتخذ للهجوم على المؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف؟
بالفعل.. والله لو سكت الأزهر لقالوا لقد غاب الأزهر، ولو تكلم الأزهر قالوا: ما للأزهر وللكلام؟ ولو أراد الأزهر أن يجدد لقالوا: من أنتم حتى تجددوا لنا، مع أن الأزهر - كما قلت- يفتح ذراعيه لجميع المثقفين والمفكرين والمصلحين، وسبق له أن قرر وصنع الوثائق وكان ملازما لجميع الشعب المصرى، ولم يفرق بين مسلم ومسيحى، فالأزهر ملك للمسلمين جميعًا، رغمًا من كونه ملكا للمصريين جميعًا، وهناك وثيقة الأزهر التجديد، وأنا شخصيا شاركت فى إعدادها.
*هل ترى أن قضية التجديد أوشكت أن تضع «أوزارها» أم أنها ستمتد خلال الفترة القادمة؟
أود أن أقول هنا شهادة نُسأل عنها أمام الله، فقضية التجديد تولى أمرها فضيلة الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، منذ توليه مشيخة الأزهر، فالرجل منذ أن تولى دق ناقوس الخطر، وكان يقول إنه لا بد من أن ننظر فى كتبتنا التى ندرسها لأبنائنا، فلا بد من النظر فيها وتمحيصها، فالرجل حمل أمر التجديد منذ أن تولى زمام المشيخة، وسيظل هذا الباب مفتوحًا، ولن ينتهى بإقامة مؤتمر مثل مؤتمر الأزهر أو ما بعده، إنما هذه بداية، والقافلة تسير أن شاء الله.
*إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسى لرعايته مؤتمر الأزهر وحضوره له.. برأيك هل له دلالات معينة؟
الحقيقة أن الأزهر فى عهد الرئيس عبد الفتاح السيسى لقى دعمًا لا حدود له، والعلاقة بين المشيخة ورئاسة الجمهورية علاقة على أصفى وأنقى ما تكون العلاقات، لأن الرئاسة والمشيخة كل منهم يريد الإصلاح لهذا الوطن، وحضور الرئيس لهذا المؤتمر فيه دلالات عظيمة، واستجابة لدعوته التى أطلقها فى آخر لقاء مع العلماء، وفيه ترحيب من قبل علماء الأزهر وشيوخه، لأنه الذى قال «سأكون بينكم حينما أرى شيوخ الأزهر وعلمائه يدقون ناقوس الخطر وينقبون فى هذا الجانب، سأكون حاضرًا معكم» فحرى بالأزهر أن يدعو صاحب الدعوة أن يشاهد عرسه الذى دعا إليه.
الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ "فيتو"