عبد الله البردوني..الأعمى إذا أبدع
تميزت قصص الشاعر اليمنى الكفيف عبدالله البردونى الشعرية بخصوصية بردونية بحتة يشعرها ويتحسسها قارئ شعره أو أي ناقد متخصص في صناعة معيارية دقيقة، لتحليل الشعر استنادا إلى المنهج النفسي أو التاريخي.. وشاعر مثل البردوني يمتلك ذاكرة خصبة يستطيع أن يقدّم لوحة شعرية يرسمها من خلال مشاعره الجياشة يقول:
في هجعة الليل المخيف الشاتي
والجو يحلم بالصباح الآتي
والريح كالمحموم تهذى والدجى
في الأفق أشباح من الإنصات
في ذلك الليل المخيف عض فتى
قلق الثياب مروع الخطوات
آمن البردوني من خلال مجالسه ومقالاته الصحفية، وفي السوامر والمقابلات التي أجريت معه في صحف ومجلات ودوريات الوطن العربي بضرورة تفرد الأديب بشخصيته لأن التاريخ يأخذ مساره من الاجتماعية إلى الفردية، وكان البردوني مؤمنا بارتباطه بواقعه الاجتماعي.
إن الهدوء مطلب روحي من مطالب الكفيف.. والكفيف هنا شاعر يحب أن يؤثر الصمت أكثر من الهدوء ثم يعود إلى عملية التأمل والاستغراق، حيث يفلح في تصوير نفسه من خلال معان ترصد شخصيته وسلوكه وتصرفاته بقوله:
سهدت فأصابني جميل سهادي
فأرهقت في النسيان كأس رقادي
وسامرت في جفن السهاد سرائر
لطافا كذكرى من عهود وداد
ونادمت وحي الفن أحد..رحيقه
وأحس وقلبي في الجواغ صاد
للبردوني نظرة فلسفية فيما يخص الموت، وهو القدر المحتوم على البشرية.. لقد أصيب بالجدري وهو طفل، وكان يسير هائما في شوارع صنعاء لا يدري متى تدهسه سيارة أو تطأ جسده بهيمة، لذلك تعامل مع مقابلة الموت على طريقة الشاعر الذي يعي الوجود دنيويا وأخرويا:
كل غصن له مذاق جديد
كالمليحات كل أخرى جديدة
كيف لست الذي قصفت صباها
وصباه أن المنايا عديدة
تسبق القتل أو تليه وأنا
تمتطي صهوة الحروف المبيدة
يا مميتي من ذا يميت المنايا
كالقوى تأكل الأشد الشديدة
كان البردوني أسير الواقع الحرفي المباشر، يرتدي رداء شفافا من الرومانسية، وكان على رأس هذه المدرسة الرومانسية حيث جسد الواقع اليمني الراهن بل يكاد ينطبق من خلال هذه التهويمة الرومانسية: متى كفني هنا وتبكي على كل شيء لا يستحق اهتماما
القضايا التي أهاجتك أقوى
من أغانيك من نواح.. لأيامى
خلف هذا الجدار تشدو وتبكي
والزوايا تندى أسى وجثاما
إن الشاعر رغم فقدان بصره استطاع أن يتلاعب بالمفردات وينشئ حواراته الشعرية التي تصل إلى مستويات مختلفة، مسرحية أو تمثيلية، أو مسلسلة مسموعة:
من أنت واستبقت جوابي
لهب يجن إلى التهاب
من أنت عزاف الأسى
والنار قيثار العذاب
وعلى جبينك قصة
حيرى كديجور اليباب
إن بعض المحسنات البديعية والأساليب البيانية التي أسرف فيها الشاعر وكذلك الجمع بين المتناقضات، قد أكدت حيوية صوره الشعرية وقدرته على إعادة تخصيب تربته الشعرية بعد أن أحدث علاقة مع الألفاظ من خلال رؤيته الشعرية وفلسفته ونظرته للحياة:
ليس بيني وبين شيء قرابة
عالمي غربة زماني غرابة
ربما جئت قبل أو بعد وقتي
أو أتت عني فترة النيابة
غيرت وقتها الفصول أضاعت
أعين الشمس والنجوم الثقابة
يقول المؤلف الدكتور الباحث وليد مشوح في خاتمة دراسته الأكاديمية: حاولت أن أقدم جانبا أدبيا واحدا في دراسة البردوني.. حيث تصديت لمبادلات العاهة مع الإبداع لدى الشاعر، واتخذت المنهج النفسي منارة في بحثي هذا».... ونكمل غدا