عبدالله البردونى.. الأعمى الذى رأى كل شىء
الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني.. يعد بحق إحدى العلامات الشعرية والثورية في تاريخ بلاده، استطاع بدأبه وإصراره وصموده وإيمانه بقضيته أن يحفر في ذاكرة وطنه اسمه بأحرف من نور.. بالرغم من أنه ممن فقدوا نعمة البصر في سنوات حياتهم الأولى، فقد فجع بناظريه فارتد ضريرا وهو ابن «5» أعوام، بعدما كان بصيرا، وأغلقت عليه عاهة العمى سردابها الوحشي، ولكنه لم ييأس ولم يستسلم ولم يندب حظه التعيس، بل قاوم ظلمات العمى بأغوار البصيرة ومصابيح العقل التي لم تتعطل يوما، فمن حلكة الظلمات أشرق مهرجان من الإبداع والإرادة الفولاذية تحت جوانح البردوني، فقهر عجزه ولم يعره يوما اهتماما.
ولد عبدالله البردوني في العام 1348هـ، في قرية البردون في اليمن، من أبوين فلاحين، أصيب بالعمى بسبب الجدري، عندما كان في الخامسة من عمره، وأسعفته الظروف بالدراسة في مدارس «زمار» لمدة 10 أعوام ثم انتقل إلى صنعاء، حيث أكمل دراسته في دار العلوم، ثم عين أستاذا للآداب العربية.
عاش البردوني بين الفلاحين.. حرم من أمه صغيرا، وأخفق في حبه إخفاقا مؤلما، ولذا خرج شعره وفيه مسحة من الحزن الكئيب، كما أن فقد بصره جعله يؤثر الصورة المسموعة، أو الصوتية على الصورة المنظورة أو المرئية، ومولده ونشأته في بيئة فقيرة كادحة محرومة طبع شعره الغزير والمتنوع بطابع العطف والحنان الشديد على الفقراء المعدومين والمعدمين من أمثاله، فهو شديد الإحساس بشقائهم.
وكذلك نجده يلمح في ديوانه إلى التناقض الطبقي، وحمل على ترف القصور الذي بُني على استنزاف جهد الكادحين، وحرمانه القلب المحب كان سببا لنبوغه.
في شعر "البردونى" الوطني.. نلمس تعبيرا عن إيمانه العميق بوحدة اليمن الطبيعية وبالوحدة العربية، ونجد لديه ظلالا لقضية فلسطين، وذلك كله بوشاح من الأسى والحزن، مع سلاسة وعذوبة في وجدانياته، وجزالة في حماسته ووطنياته.
يقول أحمد قنبش في كتابه «تاريخ الشعر العربي الحديث»: البردوني يحسن رسم الصور وابتكارها، وكان مولعا بالإيحاء والرمزية وتشخيص التجريدات.. فللفجر شفاه، وللمروج صدور، وللربى أجفان وللربيع قلب.
في شهر سبتمبر 2002.. احتفت مجلة الكويت الثقافية الشهرية بالبردوني وكتبت عنه: «البردوني شاعر اليمن.. شاعر ينتمي إلى كوكبة من الشعراء، الذين مثلت رؤاهم الجمالية حبل خلاص، لا لشعوبهم فقط، بل لأمتهم أيضا، عاش حياته مناضلا ضد الرجعية والديكتاتورية، وجميع أشكال القهر ببصيرة النور، الذي يريد وطنه والعالم كما ينبغي أن يكون، وبدأب المثقف الجذري الذي ربط مصيره الشخصي بمستقبل الوطن، فأحب وطنه بطريقته الخاصة، رافضا أن يعلمه أحد كيف يحب.
لم يكن يرى الوجوه.. فلا يعرف إذا غضب منه الغاضبون، لذلك كانوا يتميزون في حضرته غيظا، وهو يرشقهم بعباراته الساخرة، لسان حاله يقول: «كيف لأحد أن يفهم حبا من نوع خاص، حب من لم يَر لمن لا يرى ؟».
أضافت: «البردوني المولود في قرية البردون شرق مدينة زمار في العام 1928.. فقد بصره في الخامسة من عمره، وهو شاعر حديث، سرعان ما تخلص من أصوات الآخرين، وصفا صوته عذبا، شعره فيه تجديد أو تجاوز للتقليد في لغته وبنيته وموضوعاته، حتى قيل: هناك شعر تقليدي، وشعر حديث، وشعر البردوني، أحب الناس وخصّ بحبه أهل اليمن، وهو صاحب نظرة صوفية في حبهم ومعاشرتهم، إذ يحرص على لقائهم بشوشا، طاويا ما في قلبه من ألم ومعاناة، ويذهب إلى عزلته ذاهلا مذعورا قلقا من كل شيء، لا يكف عن السؤال.. حتى سُمي شاعر الأسئلة:
وأنا في عزلتي السوداء: وفي قلبي الدامي قلوب الأمم
قلق اليقظة مذعور الكرى: ذاهل الفكر شريد الحلم
كلما ساءلت نفسي من أنا؟ صمتت عني حموت الصنم
البردوني.. إذ يقحم نفسه في هموم الناس ومعاناتهم ينفرد على نفسه بهمه العظيم.. يكاد لا يسمع أنينه أحد.
لكنه كلما وجد فرصة ليقف مع اليمنى الفقير القانع بحياته تقدم من دون تردد ودافع عنه وقال:
وأنا أكدى الورى عيشا على.. أنني أبكي لبلوى كل مكد
حين يشقى الناس أشقى معهم.. وأنا أشقى كما يشقون وحدي
من هذا الحب.. تناسى الشاعر نفسه وهمومه، وحمل هموم الناس.
تابعت المجلة: «دخل البردوني بفكره المستقل إلى الساحة السياسية اليمنية، وهو المسجون في بداياته بسبب شعره، والمبعد عن منصب مدير إذاعة صنعاء، والمجاهر بآرائه عارفا ما تسبب له من متاعب:
يمانيون في المنفى: ومنقبون في اليمن
جنوبيون في صنعا: شماليون في عدن
خطى أكتوبر انقلبت: حزيرانية الكفن
فمن مستعمر غاز: إلى مستعمر وطني
ونكمل غدًا مسيرة الأعمى الذي رأى كل شىء.