حكم قبول هدية من اختلط ماله الحلال بالحرام
حثت الشريعة الإسلامية أتباعها على تحرى الحلال فى جميع تعاملاتهم والابتعاد عن كافة أشكال الحرام ومن الأسئلة التى دارت في هذا الشأن هو "حكم قبول هدية من شخص اختلط ماله الحلال بالحرام".
ومن جانبها أوضحت دار الإفتاء أن الفقهاء اختلفوا في حكم التعامل بالبيع والشراء وقبول الهدية وأكل الطعام ونحو ذلك مع من اختلط ماله الحلال بالحرام؛ بحيث لم يُعلم عين الحرام، على قولين:
أحدهما: الحرمة، وهو ما ذهب إليه الحنفية فيما إذا غلب الحرام، وطرد أصبغ من المالكية الحرمة مطلقًا قلَّ الحرام أو غلب؛ حيث يقول الإمام الدسوقي: "اعلم أنَّ من أكثر ماله حلال وأقلُّه حرام، المعتمد جواز معاملته ومداينته والأكل من ماله كما قال ابن القاسم، خلافًا لأصبغ القائل بحرمة ذلك، وأما من أكثر ماله حرام والقليل منه حلال فمذهب ابن القاسم كراهة معاملته ومداينته والأكل من ماله وهو المعتمد خلافًا لأصبغ المحرِّم لذلك".
وأشارت الدار أن "أصبغ" استدل بأن اختلاط المال الحلال بالحرام يجعل الحرام شائعًا في المال فتسري الحرمة إليه كله، ويلزم صاحبه التصدق به.
حكم التبرك بالصلاة في الأماكن التي صلى فيها النبي؟
وأضافت الدار أن ثاني الأقوال هو: الجواز مع الكراهة، وهو قول المالكية فيما إذا غلب الحرام، وقول الشافعية والحنابلة مطلقًا قلَّ الحرام أو كثر، وهو قول الحنفية فيما إذا غلب الحلال الحرام؛ حيث يقول الإمام النووي: "دعاه مَن أكثرُ مالِهِ حرامٌ؛ كرهت إجابته كما تكره معاملته".
ويقول الإمام السيوطي: "معاملة مَن أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه لا يحرم في الأصح، لكن يكره، وكذا الأخذ من عطايا السلطان إذا غلب الحرام في يده، كما قال في "شرح المهذب": إن المشهور فيه الكراهة لا التحريم".
ويقول الإمام المرداوي: "فائدة: في جواز الأكل من مال مَن في ماله حرام أقوال... القول الرابع: عدم التحريم مطلقًا قلَّ الحرام أو كثر، لكن يكره، وتَقوَى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته، جزم به في "المغني"، والشرح، وقاله ابن عقيل في فصوله وغيره، وقدَّمه الأزجي وغيره. قلت: وهو المذهب.
واستدلوا على الجواز بأن الأصل في المال والتعامل به الإباحة، والتحريم عارض لا يثبت إلا بيقين، كما أن الاحتمال قائم بأن يقع التعامل بالمال الحلال لا سيما وأن الظاهر أن ما بيد الإنسان ملك له.
وأوضحت الدار أنه قد كان -صلى الله عليه وآله وسلم- وصحابته يتعاملون مع غير المسلمين ويقبلون هداياهم ولا يخلو ما بأيديهم من المال الحرام؛ كأموال الربا وثمن الخمر والفسق والأصنام وغير ذلك من المنكرات، وقد وصفهم الله عز وجل بأنهم: "سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ"، ولذلك لما جاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال: "إن لي جارًا يأكل الربا، وإنه لا يزال يدعوني، فقال: مهنؤه لك وإثمه عليه".
وأنه يستدل على الكراهة بحديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ" متفق عليه، واختلاط المال بالحرام من الشبهات التي يُندب فيها الاتقاء.
وإن القول بالتحريم فيه حرج ومشقة على المكلفين، كما أن فيه فتحًا لباب الوسوسة والخصومة وتبادل التهم بين الناس، وأن قول أصبغ لم يخل من نقد علماء المذهب المالكي نفسه؛ فقال الإمام القرافي في "الذخيرة"
ووصفه الإمام ابن العربي بأنه غلو في الدين، أضف إلى ذلك أن أصله في سريان الحرمة لجميع المال بالاختلاط أصل فاسد؛ لأن الحرمة وصف يثبت في ذمة المكلف لا علاقة بالمال به، فذات المال لا يوصف بحل أو حرمة، بل فعل المكلِّف ما يوصف به.
وأنتهت الدار بعد عرض الأقوال السابقة بأنه يجوز مع الكراهة قبول هدية من اختلط ماله الحلال بالحرام على الراجح من مذهب جمهور العلماء، وذلك ما لم يعلم الحرام بعينه، فإن علمه حرم قبوله.