فيتو ضد ثلاثة: تل أبيب والدوحة والمقطم
قبل عام من الآن، كان نطفة من حبر يتحرك فى أحشاء قلم، ثم صار كلمة ندية، شجية، شهية على أوراق يقرؤها الناس، كان أملاً في رحم المجلس الأعلى للصحافة، وتوقيعات تتنقل من شارع الصحافة، حيث يعيش المجلس بنصف قوته هناك، إلى شارع هدى شعراوى، حيث يعيش النصف الثانى مطاردًا، بعد أن فقد بيته الأصلى إثر حريق قام به مجهولون فى أيام الثورة الأولى.
كان أوراقًا وروتينًا حكوميًا رفض الرحيل، مع نظام لايزال باقيًا، تحت عمامة مرشد ولحية حاكم، وكنا نناقش مستقبله قبل الولادة بشهور، كان المجلس قبل أن يئول إلى جماعة الشيطان بالميراث غير الشرعى، يطرحه على مائدة التفاوض، ثم يعيده إلينا لأن ورقة البنك غير واضحة، ثم يتناوله مرة أخرى، وقبل أن يبتلعه يعيده إلينا، لأن توقيعات الشركاء أخذت بحبر أسود، والمطلوب حبر أزرق فاتح حبتين، وأخيرًا كتبوا لنا شهادة الميلاد .. هكذا عبرنا من مرحلة النطفة إلى أن أصبحنا خلقًا آخر.. والحمد لله.
ولأننا ندرك جيدًا أن من ولد زاحفًا لا يستطيع الطيران، ولأننا على يقين أن تاج القيصر لا يحميه من الصداع، وأن أشد الناس قلقًا في السجن هو المأمور، فقد آثرنا منذ البداية ألا نزحف كما زحف غيرنا فعادوا مكسورين، مقهورين، نادمين، معتذرين، وحرصنا على أن نكون صداعًا لا يمنعه التاج، واخترنا أن نكون قلقًا للمأمور حتى لو كنا سجناء.
كان صديقي عامر محمود هو من تواصل مع رفاق.. كنا قد التقيناهم مرات معدودات وآخرين لم نلقهم إلا على مائدة فيتو، وكان الصحفي النشط، صاحب اللفظة المتأنقة، والجملة المتألقة، والقرار الحاسم، مختار محمود -نائب رئيس التحرير- هو من يتولى ربط الأفكار، والإشراف على تنفيذها، ومراقبة خطوات العمل يرافقه في ذلك صديقنا أحمد نصير صاحب الرؤى المستقبلية بلا منازع.
ولايزال سيد حمودة يتنقل بين ممرات مكتب صغير، كنا نرسم فيه ملامح التجربة الوليدة بوسط القاهرة، وكأنه ذاكرتنا الحية، الشاهدة على مانحلم به، ومانخطط له، ومانصبو إليه، وعلى نفس درجة الود والحسم، كان رفيقنا عماد بحيرى القابض على قلم، وأجندة صغيرة، متصورًا أنه صاغ الدنيا على صفحاتها، فتشاركا معاً فى إنشاء قسم المحافظات، وكان لهما فضل كبير في وصولنا إلى أعماق الريف وحوارى المدن بفضل فريق عمل يعشق كل شيء إلا النوم، فأقلقونا بحق وبغير حق !!
فى مكتب صغير بشارع الشواربى، كان تجمعنا قدريًا، لم ننتق بعضنا البعض، بل التقينا حول مولود ساحر، استطاع أن يصيغ عقول الجميع في طريق واحد، طريق مصر الوطن، المختطف من ثلة من هواة النصب، وعشاق القهر، وأنبياء الظلم، فكنا -ودون اتفاق بيننا- أول من ازاح الستارعن فضائح الإخوان، وجبروتهم، وأعلنا منذ البداية أنه لاحياد مع محتلين جدد، محتلين أشد ظلماً، وأكثر خطراً من كل احتلال مر على هذه الأرض.
كانت عيوننا قد اخترقت معبد جماعة الاحتلال الجدد، ترصد مايخططون، وترسم ملامح تجربة يستعبد فيها الناس، وتمهد الأرض لكل عدو لم ينل منا في أحط لحظات تاريخنا الحديث والقديم، أفسحوا الطريق لثلاث عواصم لافرق بينها: (واشنطن،وتل أبيب،والدوحة) وما أدراك ما الدوحة.. وخططوا بليل ضد الحرية، وضد فكرة الاستقلال، وضد الثورة، وقال كبيرهم "هذا الشعب لايُحكم إلا بالعنف" وقال وزير عدلهم "مصر لم تقم فيها ثورة وإنما مجرد مظاهرة" وقال مرشدهم السابق "مصر ليس فيها ثوار" وأضاف "دول شوية عيال".
قلنا منذ البداية إن مرسي رئيس عصابة، ولن يكون رئيس دولة، فحاصرونا، وهددونا، وحاولوا بث الرعب فى سطورنا، بل خرج علينا متحدثهم الرسمى محمود غزلان ليعلن أن جماعته ستغلق "فيتو"، وتمر الأيام وتنشر "فيتو" على صفحاتها حكاية محمود غزلان مع شقيقه، وكيف " أكل حق أولاده "ولم يستطع أن يتحرك خطوة واحدة إلى المحكمة، وبالمناسبة لايزال محمود " واكل حق اخوه " حتي كتابة هذه السطور، وقلنا إن مرسى كذب على الناس، وقلنا إن جماعته فاشية جديدة لا تقل عن فاشية هتلر.. قلنا كل ذلك قبل أن يقوله أحد .. ويوم أن كتبت " الطرطور " قال عنى كاتب كبير وأديب شهير " صحفى صفيق " ثم عاد.. واعتذر للجماهير، لأنه ورطهم في اختيار مرسى.
كنت أراهن على زملاء مخضرمين، زكريا خضر -مدير التحرير- ومحمد عبد المنعم مساعد -رئيس التحرير- ووحيد حلمى -مدير تحرير الديسك- وكانوا جميعا يعلنون انهم لايزالوا يلهثون وراء جيل جديد، لايعرف حدودًا للحرية، فهم صناع تلك الحرية، وقادتها، وهم المقاتلون فى سبيلها، مهما كلفهم الأمر .. هكذا كنا نبحث دوماً عن فرامل في عمل صحفى لم يعد مقبولًا صناعته بفرامل !!
صباح الاثنين من كل أسبوع يتسلل إلى مكتبى - بعد أن أصبح لى مكتب منفرد - صديقنا حسام صبرى -رئيس مجلس الإدارة- وبطريقة عفوية يسحب صفحة تلو أخرى وفجأة ينهض واقفاً.. وهو يردد "على بركة الله .. السجن للجدعان" ولاينسى عندما يكون خارج القاهرة أن يتصل بى سائلًا: وعندنا مصايب إيه بكرة فأرد عليه: لاتشغل بالك، فالقانون يضعك معنا فى نفس الزنزانة.
من نفس المنطلق تبدو هدايا حسام لى عادة حالة معبرة عن مستقبل بين جدران السجن .. زمزمية ميه، وسادة هوائية، حزام به جيب سرى، قلم يكتب فى الظلام .. إلخ!!
كان نبيل الطاروطى -المخرج الصحفى المتميز- يطل بنظارته من خلف شاشة ضخمة، تحمل إطارًا عريضًا من الفراغ، وفى المنتصف نقطة بلون برتقالى، ولاينسى أن يقول بإمعان: من هنا سنبدأ وضع ماكيت فيتو، وعلى مقربة منه يقع مكتب طارق المغربى -المخرج الصحفى المتمرد- وهو ينظر على شاشة امتزجت صورها بخطوطها، فى شكل بديع، وكأنه يراهن على اختيار نبيل لها بديلًا عما خطه هو.
زميلانا محمود عبد الدايم وخالد زكى وكلاهما ينتمى إلى صعيد مصر الذى قال نعم للدستور، يشعران بذنب كبير، فهما منذ إطلاق أول صاروخ أرض جو من فيتو ضد الطَّغَام الحاكمين، والطغام -لمن لايعلم- هم أرذال الناس، وأوغادهم كانا متورطين بالمشاركة بالقول والفعل ضد كل ماهو إخوانى شرير، وهذا بلاغ مني ضدهما لولاة الأمر فى المقطم !
اعترف أن لنا زملاء أمسكوا العصا من المنتصف، واعترف أننا الآن من يحاول إمساك أيديهم عن الانغماس فيما هو أبعد من النقد، يرفعون الآن مدافعهم غير عابئين بما تحمله أيام مرسى السوداء، لكل معارض، أو مناوئ، أو حتى رافض، واعترف أننا فى سنة ثانية فيتو، لن نلين ولن نركع -على رأي مرسى- وأعترف أننا سنكون شوكة فى حلق كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير، معتد أثيم، وأظنكم جميعًا تتفقون معى أنهم وحدهم من تنطبق عليهم كل هذه الصفات.