دفعنا ثمن الحرية بدم.. "السد العالي" قصة الحرب والتنمية
تروى القصص من بداياتها إذا تحدثنا عن السد العالى فى الذكرى الـ49 لتشغيلة فأن البداية يجب أن تكون من حرب السويس فى 1956، الحرب التى فرضت على مصر بسبب سعيها لاسترداد حقوقها التاريخية الثابتة فى ملكية وإدارة شركة قناة السويس لتوفير التمويل اللازم لمشروع السد العالى الذى عول عليه الرئيس جمال عبد الناصر وقتها أمال وخطط عريضة لإحداث نقلة تنموية ضخمة فى مصر بتوليد الكهرباء وترك احتياطى إستراتيجية من المياه للأجيال المقبلة.
الرفض الدولى لتمويل السد العالى وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولى دفع الرئيس جمال عبد الناصر لاتخاذ قرار تأميم شركة قناة السويس التى كانت تحت الإدارة االفرنسية بموجب حق امتياز ينتهى عام ١٩٦٨ لكن الحاجة المصرية إلى تمويل بناء مشروع القرن بالنسبة لمصر عجل بقرار التأميم فى يوليو ١٩٥٦ لينتزع أبناء الوطن مقدراتهم من بين ايدى الأجانب فى فترة شهدت زروة الحماس الوطنى للاستقلال فى القرار والتخلص من الإرث الاستعمارى، ودارت بعدها حرب السويس فى أكتوبر من نفس وانتهت بانتصار سياسى أدى لانسحاب القوات الفرنسية والبريطانية والصهيونية من الأراضى المصرية بعد دمار واسع حل بمدن القناة وخسائر مادية قدرها الرئيس جمال عبد الناصر وقتها ب١٣٠ مليون جنيه حصيلة الخسائر فى المعدات العسكرية كما ورد فى مذكرات عبد اللطيف البغدادى.
انتصر المصريين فى حرب السويس وانتزعوا الاستقلال مدفوعا ثمنه بالدماء وهو ما عبر عنه عبد الرحمن الابنودى فى قصيدته يعيش جمال عبد الناصر حين قال عن معركة السويس والسد العالى (دفعنا ثمن الحرية بدم مش بدينار ودولار).
شكل السد العالى الامل فى توليد الكهرباء وزيادة الرقعة الزراعية ورفع إنتاجيتها وحماية الناس والأرض من خطر الفيضان وتخزين احتياطى مائى لصالح الأجيال القادمة ولحماية مصر من آثار الجفاف.
فكرة إنشاء سد لترويض النيل على الحدود المصرية السودانية لم تكن جديدة ولكنها فكرة تم مناقشتها والتخطيط لها كثيرا لكنها دخلت حيز التنفيذ الجدى عندما تقدم المهندس المصرى اليونانى الأصل أدريان دانينوس إلى قيادة ثورة 1952 بمشروع لبناء سد ضخم عند أسوان لحجز فيضان النيل وتخزين مياهه وتوليد طاقة كهربائية منه بدأت الدراسات فى 18 أكتوبر 1952 بناء على قرار مجلس قيادة ثورة 1952 من قبل وزارة الأشغال العمومية (وزارة الرى والموارد المائية حاليا) وسلاح المهندسين بالجيش ومجموعة منتقاة من أساتذة الجامعات حيث استقر الرأى على أن المشروع قادر على توفير احتياجات مصر المائية.
فى أوائل عام 1954 تقدمت شركتان هندسيتان من ألمانيا بتصميم للمشروع، وراجعت لجنة دولية بمراجعة هذا التصميم وأقرته فى ديسمبر 1954 كما تم وضع مواصفات وشروط التنفيذ
طلبت مصر من البنك الدولى تمويل المشروع، وبعد دراسات مستفيضة للمشروع أقر البنك الدولى جدوى المشروع فنيا واقتصاديا.
فى ديسمبر 1955 تقدم البنك الدولى بعرض لتقديم معونة بما يساوى ربع تكاليف إنشاء السد. سحب البنك الدولى عرضه فى 19/7/1956 بسبب الضغوط الاستعمارية وفى 27/12/1958 تم توقيع اتفاقية بين روسيا (الاتحاد السوفيتى سابقا) ومصر لإقراض مصر 400 مليون روبل لتنفيذ المرحلة الأولى من السد.
وفى مايو 1959 قام الخبراء السوفييت بمراجعة تصميمات السد واقترحوا بعض التحويرات الطفيفة التى كان أهمها تغيير موقع محطة القوى واستخدام تقنية خاصة فى غسيل وضم الرمال عند استخدامها فى بناء جسم السد، وفى ديسمبر 1959 تم توقيع اتفاقية توزيع مياه خزان السد بين مصر والسودان.
بدأ العمل فى تنفيذ المرحلة الأولى من السد فى 9 يناير 1960 وشملت حفر قناة التحويل والأنفاق وتبطينها بالخرسانة المسلحة وصب أساسات محطة الكهرباء وبناء السد حتى منسوب 130 مترا.
فى 27 أغسطس 1960 تم التوقيع على الاتفاقية الثانية مع روسيا (الاتحاد السوفيتى سابقا) لإقراض مصر 500 مليون روبل إضافية لتمويل المرحلة الثانية من السد، وفى منتصف مايو 1964 تم تحويل مياه النهر إلى قناة التحويل والأنفاق وإقفال مجرى النيل والبدء فى تخزين المياه بالبحيرة، فى المرحلة الثانية تم الاستمرار فى بناء جسم السد حتى نهايته وإتمام بناء محطة الكهرباء وتركيب التربينات وتشغيلها مع إقامة محطات المحولات وخطوط نقل الكهرباء.
انطلقت الشرارة الأولي من محطة كهرباء السد العالي في أكتوبر 1967 بدأ تخزين المياه بالكامل أمام السد العالي منذ عام 1968في منتصف يوليو 1970 اكتمل صرح المشروع في15 يناير 1971 تم الاحتفال بافتتاح السد العالي.
يقول الدكتور عباس شراقى أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا بجامعة القاهرة أن مشروع السد العالى أحد أهم المشروعات فى العالم فى القرن العشرين لانه جمع تكلفة بنائة التى وصلت إلى نصف مليار دولار أو مليار ونصف جنيه وقت بنائه وساهم فى استصلاح ١. ٧ مليون فدان خلال فترة قليلة من بنائه وهو المشروع الوحيد فى مصر الذى حقق جدوى اقتصادية ل١٠٠% من السكان وهو بذلك يتفوق على كافة مشروعات البنية التحتية والخدمات والتصنيع الزراعى والصناعات الثقيلة لانه وفر في المقام الأول الأمان للمصريين بشكل عام من مخاطر الفيضان والجفاف الذى ضرب حوض النيل فى ثمانينيات القرن الماضى ولولا السد العالى لعطش المصريين.
وأكد شراقى أن السد العالى هو المشروع الأغلى ثمنا فى تاريخ المصريين الحديث لأن بناءه تطلب بذل الدماء فى حرب السويس 1956.
مواصفات السد العالي
السد العالى عبارة عن سد ركامى طوله عند القمة 3830 مترا منها 520 مترا بين ضفتى النيل ويمتد الباقى على هيئة جناحين على جانبى النهر، ويبلغ ارتفاع السد 111 مترا فوق منسوب قاع نهر النيل وعرضه عند القمة 40 مترا.
تقع محطة الكهرباء على الضفة الشرقية للنيل معترضة مجرى قناة التحويل التى تنساب منها المياه إلى التربينات من خلال ستة أنفاق مزودة ببوابات للتحكم فى المياه بالإضافة إلى حواجز للأعشاب. وتنتج محطة الكهرباء طاقة كهربائية تصل إلى 10 مليارات كيلووات ساعة سنويا.
تكون المياه المحجوزة أمام السد بحيرة صناعية هائلة طولها 500 كيلومترا ومتوسط عرضها 12 كيلومترا حيث تغطى النوبة المصرية بأكملها وجزءا من النوبة السودانية، وقد صمم السد العالى بحيث يكون أقصى منسوب للمياه المحجوزة أمامه 183 مترا حيث تبلغ سعة البحيرة التخزينية عند هذا المنسوب 169 مليار متر مكعب مقسمة كالتالى:
-31.6 مليار متر مكعب سعة التخزين الميت المخصص للإطماء.
- 89.7 مليار متر مكعب سعة التخزين التى تضمن متوسط تصرف سنوى يعادل 84 مليار متر مكعب موزعة بين مصر والسودان (55.5 مليار متر مكعب لمصر و28.5 مليار متر مكعب للسودان).
-7.7 مليار متر مكعب سعة التخزين المخصصة للوقاية من الفيضانات. تم تنفيذ مفيض لتصريف مياه البحيرة إذا ارتفع منسوبها عن أقصى منسوب مقرر للتخزين وهو 183 مترا، ويقع هذا المفيض على بعد 2 كيلومتر غرب السد فى منطقة بها منخفض طبيعى منحدر نحو مجرى النيل حيث يسمح بمرور 200 مليون متر مكعب فى اليوم. تم إنشاء مفيض توشكى فى نهاية عام 1981 لوقاية البلاد من أخطار الفيضانات العالية وما يمكن أن يسببه إطلاق المياه بتصرفات كبيرة فى مجرى النهر من نحر وتدمير للمنشآت المائية المقامة عليه حيث يتم تصريف المياه -إذا زاد منسوبها أمام السد العالى عن 178 مترا- من خلال مفيض توشكى إلى منخفض يقع فى الصحراء الغربية جنوب السد العالى بحوالى 250 كيلومترا وهو منخفض توشكى.
وقد دخلت المياه إلى مفيض توشكى لأول مرة فى 15 نوفمبر 1996 حيث وصل منسوب المياه أمام السد العالى إلى 178.55 مترا.