توجه إعلامى أم "حشد ذهنى للفتنة"؟!
من الطبيعى أن يعكس الإعلام فى مصر حالة الاحتقان والاصطفاف، بل والانشقاق والتصنيف المجتمعى. هذه الحالة ليست غريبة على المجتمع المصرى فقد بدأت بعد الثورة بدرجات مختلفة، لكن وسائل الإعلام تعيد إنتاج الحالة نفسها بشكل مختلف خلال الشهور الأخيرة.
فالإعلام بصحفه وقنواته ومواقعه على الإنترنت يزيد من سخونة المشهد السياسى، وينزلق صناعو الإعلام إلى منعطف مهنى يبررون من خلاله دوره فى جعل المشهد السياسى أكثر "التهابا" باعتباره مشروعاً فى إطار الإعلام الاستقصائى الذى يأخذ على عاتقه "كشف المستخبى"، وفى إطار الشفافية والتنوير، ومواجهة الرأى بالرأى والحجة بالحجة.
وهكذا يصبح من الطبيعى أن يزداد هجوم القوى السياسية على بعضها البعض، إخوان وسلفيون من جهة، ومعارضون ليبراليون وعلمانيون، ومعارضون للرئيس وجماعته والسلفيين، من جهة أخرى عبر وسائل الإعلام، ولاسيما فى ظل غياب أية منابر سياسية حالية للحوار والتفاوض بين القوى السياسية المختلفة، فمجلس الشورى، هو أقرب لمجلس شورى الإخوان، لأن معظمه من الإخوان والسلفيين.
اعتلاء القوى السياسية منابر الإعلام والتراشق السياسى والدينى يُثقل من أحمال وسائل الإعلام فى مصر، ويحولها إلى ساحة "اقتتال سياسى"، ولا يجد بعض صناعى الإعلام غضاضة فى ذلك، فكل مشروع إعلامى يحمل ثمة توجهات سياسية أو دينية تعبر عن مالكى القنوات والصحف المختلفة. المهم لدى صناعى الإعلام أن يكون الإعلام احترافيا وأن ينشر أخبارا موثقة وصحيحة.
لكن ما الذى يفيد وسيلة إعلامية من نشر تصريح لشيخ سلفى، بأن العلمانيين ورافضى الشريعة "كفار.. كفار.. كفار". ورغم أن صناعة الخبر تقول: إن مثل هذا التصريح "لا يعتبر خبراً"، لأن المشاهد والقارئ يعرف أن هناك تيارات تكفر من يختلف معها، فالخبر هو عندما يقول شيخ سلفى معروف بتكفيره لمن يختلف معه أن العلمانيين ورافضى تطبيق الشريعة هما إخوة فى الوطن.
وبالمثل لماذا تنشر صحيفة أخرى تصريحأ لمدير مستشفى مسيحى أشهر إسلامه بأن "الكنائس والأديرة بها "ميليشيات لتأديب المعارضين بـ"الكلاب الشرسة"؟ ولماذا لم تطلب الصحيفة منه التوجه بما لديه للنائب العام؟
حالة الاختلال السياسى فى مصر أصابت الوظائف الذهنية لوسائل الإعلام، فلم تعد تفرق بين ما يمكن أن نطلق عليه "التوجه الإعلامى" وبين الأخبار التى تثير "الفتن"، والتى تنقل وسائل الإعلام من مساحة التعبير عن توجه ما – أو التنوير ضد فكر ما – إلى الحشد والتجييش الذهنى والفكرى ضده.
وكما أن الله لا يقبل الأعمال لكونها صحيحة فقط، بل يجب أن تكون نوايا من وراءها سليمة وألا تضر هذه الأعمال بالآخرين، فإن صحة وصدق الأخبار التى تنشرها وسائل الإعلام لا تعنى حسن نوايا قنوات التليفزيون والصحف ومواقع الإنترنت.
إن مشاهد التليفزيون وقارئ الصحف ومتصفح الإنترنت لم يعد يحتاج إلى من يساعده على أن "يفتح عينيه"، فالمواطن المصرى أثبت أن عيونه مفتوحة، لكن على وسائل الإعلام أن تعيد اكتشاف المسئولية الاجتماعية لها إن أرادت للوطن والمواطن إعلاما "متحيزا" له.