رئيس التحرير
عصام كامل

"المسافر".. ‎حين يصبح الزمن هو الطريق


بمناسبة عرض فيلم "المسافر" أخيرا على إحدى القنوات التليفزيونية والحذف الغير مبرر لمشاهد منه لتذبح جزءا من لوحة فنية فى عمل أقرب لتغطية تمثال بفستان كما فعل الحرامى فى فيلم داود عبد السيد.. رأيت مشاركتكم قراءتى للفيلم.

بداية لا بد وأن أقر أن موجة السلخ التى تعرض لها فيلم "المسافر" فى مصر منذ عرضه فى مهرجان فينيسيا السابق وحتى عرضه الأخير تصيبنى بشيء من الاندهاش، حسنًا ككل الأفلام لا يخلو الفيلم من المشاكل، ولكن هذه الحالة من العداء الشديد لعمل حتى وإن لم يكن من نوع السينما التى نفضلها فى مصر فأعتقد أن أى قارئ معتدل للغة السينمائية لا بد وأن يحترم المجهود والمحاولة المبذولة لصناعة عمل فنى مختلف، حتى وإن لم يحبه بشكل شخصى، ولكن حسنًا، لهذا حديث آخر.
يخوض البطل حسن رحلة ليس بالضرورة عبر المكان فالفيلم يدور فى ثلاثة أيام يفصل بين كل منهم تقريبًا ربع قرن من الزمان ما بين بورسعيد الأربعينات وإسكندرية السبعينات وقاهرة الألفية الجديدة، ولكن يبقى الزمن هو الحيز المكانى الذى تدور فيه الرحلة، ينتحل حسن فى اليوم الأول شخصية رجل آخر باحثًا عن علاقة عاطفية محفوفة بالمجازفات التى يخوضها رغم جبنه الواضح، ويقضى اليومين الآخرين فى تبعيات تلك الليلة بحثًا عن علاقة ما بنسله المفترض الناتج عن تلك الليلة، وبحثا عن بقايا ذكريات اختلط فيها واقعه بخياله، وما فعله بما حكى له على لسان الآخرين، ينتهى كل يوم منهم بحريق؛ أولهم يشعله هو خطأ، والثانى يأتى صدفة خلال فرح يتسبب هو فى ترتيبه بسرعة، أما الأخير ففيه تحترق مدينة البطل ذاتها ويلاحقه هذا الحريق كما لو كان ينهى وجود عالمه ذاته.

يحمل كل جزء من الفيلم أسلوبا بصريا وسرديًا أقرب للمرحلة التى يأتى منها فالجزء الأول ممسرح بصريا بدءا من تصوير الباخرة فى ديكور به شيء من المبالغة، للجزء الثانى الملون بألوان السبعينات، للجزء الثالث الذى يحمل النمط البصرى والمونتاجى والموسيقى للألفية الجديدة من قطعات قافزة وصادمة أحيانا، للموسيقى الإلكترونية الصاخبة، للألوان التى تقترب من عالم السينما الرقمية أحيانا، وهنا لا بد من أن نقر أن هناك بعض الإخفاق فى هذا الجانب نظرا لعوامل عدة، ربما منها عدم استطاعة بعض الممثلين التواؤم مع هذا النمط الشكلى والأسلبة فى طريقة تعاملهم مع الشخصيات ربما عن نقص فى الوعى أو عن عدم قدرة المخرج من إيصال هذا الشكل لهم، تحديدا فى الثلث الأول من الفيلم، وهذا الثلث اليوم تحديدًا ربما كان أضعف أجزاء الفيلم، ربما لهذا الخلل فى أداء الممثلين أو فى البناء المونتاجى لهذا الجزء (أعتقد تحديدًا أن شق المونتاج هو أضعف العناصر الفنية وراء الكاميرا فى الفيلم واعتقد أنه أدى لارتباك بنائى فى أكثر من جزء من أجزاء الفيلم).
من الصعب أن أتحدث عن رسالة أو مغزى يحملها الفيلم وربما كان هذا مما صدم جمهورا أصبح لا ينتظر سوى رسالة مباشرة يحملها العمل السينمائى كما لو كان الفن السينمائى يحتاج لأن (يتمحك) كما يقول المصطلح الدارج فى رسالة كى يكتسب أهميته، ولا يعنى هذا أن الفيلم فارغ المحتوى، وإنما الفيلم يتعامل مع مستوى آخر للسرد، يطرح الفيلم أسئلة أكثر مما يجيب عليها، سيصدم كل من يدخل الفيلم باحثًا عن رسالة اجتماعية اعتدناها، ووصفة لما ندعوه بالفيلم الجاد، فالإطار المكانى الزمانى للفيلم لا يتعدى الوعاء الذى تدور فيه الأحداث والذى يرتحل فيه البطل اللابطل باحثًا طوال الوقت عن هوية سواء منتحلة أو مستعارة من آخر أو متخيلة من ذكريات لوقائع لم تحدث أو حتى مفترضة، يخوض المتفرج هذه الرحلة مع الفيلم دون أن يسقط السيناريو فى فخ الإجابات المباشرة أو الخطب، وهى معادلة خاسرة سلفًا فى جمهورنا العربى العزيز، ستدخل الفيلم وتخرج منه محملًا بحالة أو "مووود" نجح الفيلم فى إيصالك له بنسبة كبيرة وبالكثير من الأسئلة حول الهوية والذاكرة لن يقدم لك إجاباتها مع الفيلم كما تقدم مطاعم الوجبات السريعة البطاطس كهدية مع الساندوتش.
الجريدة الرسمية