أستاذ طب نفسي يكشف في دراسة جديدة أسباب انتشار الانتحار .. 3 عوامل تؤثر في زيادة الظاهرة.. 1000 شخص ينتحرون كل يوم بالعالم
كشفت دراسة جديدة أجراها الدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، عن انتشار ظاهرة الانتحار بعنوان "الانتحار بين المرض والاختيار"، أن الانتحار سلوك متعدد الدوافع ينشط حين يختل التوازن بين غريزتي الحياة والموت، وهو لا يولد في لحظة تنفيذه أو محاولة تنفيذه، وإنما يكون رابضاً كخيار في طبقات الوعي الغائرة إلى أن يطفو فوق السطح وينشط في ظروف بعينها ليكون الخيار الوحيد الذي يراه الشخص في تلك اللحظة على أنه أفضل الحلول.
وأضافت أن الانتحار بهذا المعنى ليس حدثاً عشوائياً، وإنما هو منظومة فكرية ووجدانية وسلوكية تنتظم أجزاؤها عبر السنين والأحداث ليبرز كوسيلة للخروج من مأزق أو أزمة في شخص وصل إلى حالة من انعدام الأمل وقلة الحيلة (Hopelessness and Helplessness) وقع تحت ضغوط فاقت احتماله، وضاقت أمام عينيه الخيارات أو تلاشت، أو أرادها هو أن تضيق وتتلاشى، عندئذ أعذر وأنذر، وأرسل إشارات استغاثة لكنها لم تصل إلى من يهمه الأمر (فعلاً)، أو وصلت ولم يسمعها أحد، أو سمعت ولم يفهمها أحد، أو فهمت ولم يستجب لها أحد.
معدلات الانتحار (أرقام ودلالات)
وأكد الدكتور محمد المهدي، أن غالبية المنتحرين (98 % منهم) كانوا مصابين بأمراض نفسية أو عضوية، في حين أن نسبة ضئيلة جدًا منهم (2 %) كانوا أسوياء (بمعنى أنهم ليسوا مرضى)، وهذا الرقم الإحصائي يكاد يغري باستنتاج متعجل، وهو: هل هؤلاء المنتحرون المرضى (98 %) كانوا فاقدي القدرة على التحكم في دوافعهم نحو الانتحار (أي مجبرين)، وأن 2 % فقط من المنتحرين (وهم الأسوياء) هم الذين انتحروا مختارين..؟ والإجابة بنعم هنا تتوق إليها كثير من القلوب لأناس فقدوا أعزاء عليهم منتحرين ويتمنون لو تزول عنهم فكرة اختيار الانتحار (وبالتالي مسئولية الانتحار الأخلاقية والدينية) ويصبحوا في نظرهم بشهادة العلم الإحصائي مرضى مجبرين غير مسئولين عما حدث.
وأضاف أنهم يستحقون الشفقة والتعاطف، بل والإحساس بالذنب من جانبنا نحوهم، ولكن هذا التعميم _ حين عرضه على النظرة الموضوعية _ يبدو ضعيفاً، حيث لا يستطيع أحد أن يقول إن كل مريض انتحر كان فاقد الاختيار أو فاقد الوعي والبصيرة على الرغم من ضغوط المرض القاسية، وأنه حتى على المستوى القانوني لا يعفي المريض من المسئولية في كل الحالات، بل يعفى فقط فى حالة عدم البصيرة بالفعل وعواقبه وعدم القدرة على التمييز وعدم القدرة على الاختيار واضطراب الوعي أو الإرادة، ولهذا نجد كثيرا من المرضى النفسيين عرضة للمساءلة القانونية، ولكن تتدرج المسئولية حسب تأثير المرض على العناصر المذكورة سلفاً من المسئولية الكاملة إلى انتفاء المسئولية وبينهما درجات تقدر بقدرها.
وأشار إلى أن 1000 شخص ينتحرون كل يوم على مستوى العالم أي حوالي 42 شخصا كل ساعة، وأن الانتحار هو ثامن سبب للوفاة في مجموع السكان في أمريكا، وهو ثالث سبب للوفاة بين المراهقين عموما، وثاني سبب الوفاة بين المراهقين البيض، ففي أمريكا ينتحر 75 شخصا كل يوم، أي شخص كل 20 دقيقة، أي 25 ألف حالة انتحار في السنة.
وقد وجد أن أشهر مكان للانتحار في العالم هو جسر البوابة الذهبية في سان فرانسيسكو (Golden Gate Bridge)، فقد انتحر من أعلى هذا الجسر 900 شخص منذ إنشائه عام 1937.
وأن الرقم العالمي المتوسط لمعدل الانتحار هو 12,5 شخص لكل 100,000 من مجموع السكان، وهناك ما يسمى بحزام الانتحار، وهو يضم الدول الاسكندنافية وسويزرلاند وألمانيا والنمسا ودول أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى اليابان حيث يبلغ معدل الانتحار في هذه الدول 25 شخصاً لكل 100,000 من السكان، وأعلى معدل للانتحار سجل فى هنجاري (المجر)، وهو 35 منتحرا لكل 100,000 من السكان.
وتابع، أنه في المقابل وجد أن أقل معدلات الانتحار 10 لكل 100,000 من السكان وجد في مصر (هذا قبل عام 2004م , حيث تزايدت نسب الانتحار في مصر بعد ذلك) وأيرلندا وأسبانيا وإيطاليا، وفي تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر عام 2016 وردّ أن هناك حالة انتحار في العالم كل 40 ثانية، أي بمعدل 800000 حالة انتحار سنويا، وأن نصف المنتحرين دون سن 45 سنة.
أما في فئة الشباب (15-29 سنة) يأتي الانتحار في المرتبة الثانية لأسباب الوفاة بعد حوادث الطرق، وفي نفس التقرير ورد أن عدد المنتحرين في مصر سنويا 3799، منهم 3205 رجال و 704 نساء، وأن مصر هي الأولى عربيا في معدلات الانتحار تليها السودان، تليها اليمن، تليها الجزائر، تليها العراق، تليها السعودية، واللافت للنظر زيادة أعداد ما يسمى بالانتحار الاحتجاجي، وهو ميل المنتحر إلى إشهار انتحاره، كأن يقفز من فوق برج القاهرة، أو يشنق نفسه في لوحة إعلانات أو في كوبري على النيل، أو يلقي بنفسه تحت عجلات مترو الأنفاق، وربما يحمل هذا دلالة على رغبة المنتحر في إرسال رسالة للمجتمع تعلن عن إحباطاته ومعاناته التي لم يسمعها ولم يستجب لها أحد.
واستكمل أنه لا توجد أرقام دقيقة لمعدلات الانتحار في مصر والدول العربية، حيث إن كثيرا من الحالات لا يتم تسجيلها على أنها انتحار لاعتبارات سياسية أو اجتماعية أو دينية، على الرغم من اختلاف معدلات الانتحار داخل البلد الواحد لأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو عقائدية، فمثلا وجد أن ولاية نيوجرسي في أمريكا هي أقل الولايات من حيث معدل الانتحار مقارنة بولاية نيفادا التي سجلت أعلى معدل بين الولايات الأخرى.
ونوه إلى أن النساء هن أكثر تهديدا بالانتحار وأكثر قياماً بالمحاولات الانتحارية، إلا أن الرجال أكثر تنفيذاً للانتحار فعلاً. وبالمثل فإن صغار السن يهددون كثيراً بالانتحار ولكن كبار السن ينفذونه أكثر، فقد وجد أن أعلى نسبة انتحار في الرجال تحدث بعد سن 45 سنة وفي النساء بعد سن 55 سنة.
والمنتحرون من كبار السن الذين تعدوا 65 عاماً يشكلون 25 % من حالات الانتحار على الرغم من أنهم يشكلون 10 % فقط من السكان.
الانتحار بين الأسوياء، ويتم الإشارة هنا بالأسوياء أنهم غير مصابين بأمراض نفسية أو عضوية، ولا نعني بها أنهم أسوياء في التفكير أو الاعتقاد أو السلوك؛ لأن دوافع الانتحار في هذه الفئة التي تشكل 2 % من المنتحرين تكون في صورة أفكار أو معتقدات أو عادات، ولذلك يكون الفعل الانتحاري سلوكاً مختاراً، ونذكر من أمثلة الانتحار في هذه الفئة ما يلي:
1. الانتحار الوجودي.
2. تقليد {سوتي} في الهند.
3.عروس النيل عند قدماء المصريين.
4.الانتحار الإيثاري.
5.الانتحار لفقدان عزيز.
6.المشكلات العاطفية.
7.انتحار الذكرى السنوية.
8.الانتحار الجماعي.
9.انتحار التقليد.
10.انتحار المشاهير.
وعن الانتحار بين المرضى فقد ثبت فى بحث أجري سنة 1957 لدراسة حالات الانتحار بمقابله ذويهم وفحص ملفاتهم الطبية ومقابله طبيب العائلة وجد أن 98 % كانوا يعانون أمراضاً نفسية أو جسمانية، وكانت أشهر الاضطرابات المصاحبة للانتحار هي الاكتئاب وإدمان الكحوليات.
وأجري بحث تتبعي للمقارنة بين مجموعتين: المجموعة الأولى مصابة بأمراض نفسية مختلفة، والمجموعة الثانية مصابة بأمراض جسمانية مختلفة، ووجد أن نسبه الانتحار في المجموعة الأولى (النفسية) وصلت إلى 5,5% في حين كانت المجموعة الثانية (الجسمانية) 0,6%.
ووجد أن نسبة الانتحار بين أقارب المجموعة الأولى كانت أكثر 8 مرات من عامة الناس.
العوامل المصاحبة أو المؤثرة فى حالات الإنتحار قال هي:
1.السن: الأصغر سناً أكثر تهديداً بالانتحار لكن الأكبر سناً أكثر تنفيذاً له، فقد تزايدت معدلات الانتحار في الفئة العمرية من 15 إلى 25 سنة.
2.الجنس: النساء أكثر تهديداً بالانتحار والرجال أكثر تنفيذا له. 3.الحالة الاجتماعية: المتزوجون أقل انتحاراً من غير المتزوجين.
4.التدين: المتدينون أقل انتحاراً من غير المتدينين، ومعدلات الانتحار أقل في المسلمين واليهود والكاثوليك مقارنة بالبروتستانت.
5.العرق (السلالة): البيض أكثر انتحاراً من السود، والانتحار يكون أقل بين الأقليات والمجموعات العرقية المترابطة، وتكون نسبته أكثر فى المهاجرين.
6.الوظيفة: أعلى نسبه للانتحار توجد بين المهنيين PROFESSIONALS وعلى رأسهم الأطباء البشريين وأطباء الأسنان والموسيقيين وضباط تنفيذ الأحكام والمحامين والعاملين فى شركات التأمين، وتوجد أعلى نسبة للانتحار في الطبيبات (41 حالة انتحار في كل 100,000)، وخاصة غير المتزوجات يليها الأطباء الذكور (36 في كل 100,000)، وأعلى نسبة انتحار بين الأطباء تحدث فى الأطباء النفسيين ثم أطباء العيون ثم أطباء التخدير.
وعلى الجانب الآخر تزيد معدلات الانتحار في العاطلين.
7. المستوى الاجتماعي: تزداد معدلات الانتحار في المستويات الاجتماعية الأعلى، وفي المدن أكثر من القرى.
8. الحالة الصحية الجسمانية: المرضى المزمنون والمصابون بأمراض مستعصية كالإيدز والسرطان وغيرها يكونون أكثر عرضة للانتحار من غيرهم.
الحالة الصحية النفسية: يعتبر المرض النفسي من أقوى الدوافع نحو الانتحار، ويدل على ذلك الإحصاءات التالية: تزيد خطورة الانتحار في المرضى النفسيين من 3-12 مرة بالمقارنة بعموم الناس، وأن - نسبة الانتحار بين مرض الاكتئاب من 15 –18,9% وأخطر الحالات النفسية من ناحية القابلية للانتحار هي نوبات الاكتئاب الجسيم.
نسبه الانتحار بين مرضى الفصام (الشيزوفرينيا) 10% ووجد أنه كانت توجد أعراض اكتئابية في ثلثي مرضى الفصام المنتحرين، نسبة الانتحار بين المدمنين 15%، نسبة الانتحار بين حالات اضطرابات الشخصية تتفاوت حسب نوع اضطراب الشخصية، ولكنها في مجملها أعلى من عموم الناس.
وعن أسباب الانتحار قالت الدراسة إنها:
1- عوامل اجتماعية.
2 - عوامل نفسية.
3- عوامل بيولوجية.
وأوضحت أنه تزيد معدلات الانتحار في وجود الأمراض العضوية منها:
- السرطان: خاصة سرطان الثدي والأعضاء التناسلية.
- أمراض الجهاز العصبى: مثل الصرع والتليف المتناثر، وإصابات الرأس واضطرابات الدورة الدموية المخية ومرض هنتجتون والعته والإيدز.
- اضطرابات الغدد الصماء: مثل مرض كوشنج، فقد الشهية العصبي، لازمة كلينفيلتر والبورفيريا (أيضاً معها اضطراب فى المزاج).
- اضطرابات الجهاز الهضمي: مثل قرحة المعدة وتليف الكبد (لاحظ أن هذين الاضطرابين يمكن أن يوجدا أيضاً فى الكحوليين)
- اضطرابات الجهاز البولي والتناسلي: مثل تضخم البروستاتا وحالات الفشل الكلوي والحالات الخاضعة للغسيل الكلوي.
توقع الانتحار
وتابع المهدي في دراسته أنه يمكن توقع الأشخاص المعرضين للتفكير في الانتحار أو محاولات الانتحار، وخاصة أنه في 70% في حالات الانتحار كانت توجد علامات إنذار ولكن أحدا لم ينتبه إليها أو لم يدرك مدى خطورتها، وهناك فترة حضانة لفكرة الانتحار قد تبلغ 3 شهور أو أكثر. وبناءً على دراسات عديدة أجريت تم وضع علامات الخطر مرتبة حسب أهميتها كالتالي:
1. السن: كلما زاد السن عن 45 سنة كان ذلك مصدر خطر. 2.تعاطي الكحوليات: حيث تزيد نسبة الانتحار فيهم 50 مرة عن عموم الناس.
3. الاستثارة والغضب والعنف
4. محاولات انتحارية سابقة: خاصة إذا استخدمت فيها وسائل شديدة الخطورة كالأسلحة النارية أو السقوط من علٍ أو الشنق. 5. الذكورة: حيث إن الرجال أكثر إقداماً على الانتحار كما ذكرنا من قبل.
6. رفض المساعدة.
7. طول مدة نوبة الاكتئاب أكثر من المعتاد.
8. تاريخ سابق للدخول إلى مصحة نفسية.
9. فقد شيء غالٍ أو الافتراق عن شخص عزيز فى الفترة الأخيرة.
10. الاكتئاب خاصة نوبات الاكتئاب الجسيم.
11. فقد الصحة الجسمانية.
12.عدم وجود عمل أو الإحالة للمعاش.
13. شخص أعزب أو أرمل أو مطلق.
وعن التعامل مع الحالات المعرضة للانتحار قال إنه بعد دراسة تاريخ الحالة المرضى ودراسة عوامل التدعيم والمساندة المحيطة بالشخص والقيام بالفحوصات الطبية اللازمة يقرر الطبيب النفسي، إذا كان المريض يحتاج إلى دخول مصحة نفسية أو أنه سوف يعالج من اضطراباته النفسية وهو وسط أسرته.
فإذا لم يكن هناك دعم أسري كافٍ، أو كانت تصرفات المريض مندفعة وفجائية أو كان يعاني اضطرابات نفسية شديدة، أو كان غير قادر على تناول الطعام والشراب بشكل كافٍ، فإن هذا المريض لا بد وأن يوضع في المصحة النفسية تحت ملاحظة شخصية لصيقة طوال الوقت ولا يترك وحده حتى أثناء النوم أو أثناء دخول الحمام، لأن هذا المريض ينتظر أي لحظة مناسبة لتنفيذ فكرة الانتحار وبعضهم كان ينتظر تغيير دوريات التمريض أو لحظة دخول الحمام أو أي غفلة ولو قصيرة من فريق التمريض لينفذ الانتحار وأثناء وجوده في المصحة أو المستشفى يتم علاج الاضطراب النفسي الموجود بجرعات كافية ومؤثرة من الدواء بجانب العلاج النفسي المكثف والعلاج الاجتماعي المناسب والعلاج الديني الذي يحيي في المريض الأمل ويجعل خيار الانتحار مستبعداً.
وتتم مناظرة المريض عدة مرات يومياً بواسطة الفريق العلاجي، ولا يسمح له بالخروج إلا بعد التأكد من زوال الأفكار والخطط الانتحارية واستقرار حالته النفسية.
وإذا تقرر علاج المريض في بيته فيجب أن يتأكد الطبيب من وجود الدعم والمساندة من الأسرة والملاحظة الكافية للمريض طوال الوقت واستبعاد أي آلات حادة أو أسلحة نارية أو حبال أو أحزمة أو أي شيء يمكن أن يقتل به المريض نفسه، ولا بد وأن يكون الطبيب متاحاً للمريض طوال الأربع وعشرين ساعة يومياً حيث يعطيه أرقام تليفوناته ليتصل به في أي وقت وأيضاً يأخذ الطبيب كل أرقام تليفونات المريض وعنوانه لكي يستطيع التدخل في حالات الطوارئ .
وفي النهاية أكد بأنه يمكن أن تتلخص خطة العلاج، سواء فى المستشفى أو خارجها، فى ثلاث نقاط:
الأولى: تخفيف الألم النفسي بكل الوسائل.
الثانية: التدعيم والمساندة.
الثالثة: إعطاء بديل للانتحار.